أحد علماء الكتاب المقدس أصابه مرض عضال ولازم الفراش فزاره يوما فوج من طلاّبه ولمّا رأوا سوء حالته الصّحيّة راحوا يتذكّرون ما تعلّموا منه وراحوا واحدا تلو الآخر يمدح فضائله على مسمع منه. فقال الأوّل: منذ سليمان الحكيم لم يقم في شعبنا أحكم من أستاذنا. ومنذ أبينا إبراهيم ما جاءنا مؤمن مثله، قال الثاني.
فقاطعهم الثّالث وقال: ومنذ أبينا أيّوب لم يأتنا صبور مثله. فأتمم الأخير الحديث بقوله: ومنذ وفاة قائدنا موسى لم يتحلّ إنسان مثله بالقيادة: ثم غادروا فراشه. أمّا هو فراح يتململ وما غفت له عين كلّ الّليل، فوبّخته زوجته قائلة: أما سمعت المديح فلماذا أنت منزعج؟ لأنّهم لم يذكروا تواضعي وبساطتي أمام ربّي! التّواضع؟ وهل يفطن أحد اليوم لهذه الفضيلة المسيحيّة المهمّة؟
الإنجيل يتطرّق إلى قصص وأمثلة عن الحياة، ولكن وبالرّغم من مرور أكثر من 2000 سنة عليها، هي تشابه بل تنطبق تماما على حياتنا اليوم وبالحذافير، كملاحظة يسوع اليوم على التهافت على المحلاّت الأماميّة في عزومة مهمّة (إلاّ في الكنيسة تبقى المقاعد الأولى فارغة، حتّى من المعتبرين أنفسهم شخصيّات الرعية) حيث ما كانت الأماكن تترقّم وتنحجز لهم بالحروف الأبجديّة حسب المهمّة الوظيفيّة كما في عصرنا. هذه الواقعة لم تنقرض من التّاريخ ولها بصماتها في كل عصر حتّى يومنا هذا. فكل مدعو يعتبر نفسه من المهميّن ويحب أن يبرز لا بالمظهر والّلبس فقط بل وأيضا بالجلوس في المقعد القريب من المضيف، ونعرف جميعنا الحديث والهرج بعد انتهاء الإحتفال حيث يبدأ التعليق: هل رأيت فلانا كيف كان معرّشا، مفرفشاً في مقعده اخذاً وجه الصدر؟ المنافسة على المقاعد والمناصب هي غريزة محسوسة في الإنسان، حيث يعتقد أن حضوره وجلوسه في مكان شرف يرفع من قيمته أمام الآخرين يبرز حتّى ولو لم يكن له أيّ دور يؤدّيه. فمن لا يحصل على المركز الأوّل يعتبر نفسه فاشلا وخاسرا. كلّ يفتكر أنّ الحصول على المركز الأوّل بالمنافسة، ولو على غير استحقاق، يجلب السّرور. وهو إثبات للشّخصيّة والإعتراف بقيمة الحياة.
لا نعرف مجالا في الحياة، سواء الخاصّة أو العامّة إلاّ ونكتشف أنّ المنافسة تلعب دورا كبيرا فيه. الاقتصاد ينافس لاحتلال المركز الأوّل بالتسويق. السياسيّون يتنافسون للحصول على المقعد الشّاغر في البرلمان. في المصنع تقوم المنافسة للحصول على الوظيفة. في المدرسة تقوم المنافسة للحصول على أحسن العلامات. في الّرياضة تبدو المنافسة واضحة حتّى بين أحسن الأصدقاء، إذ بالتّالي لا ينظر الفرد إلاّ لما يستحق من مكافآت مالية لجهوده وتدريبه الطّويل. كم وكم من حرب قامت في التّاريخ سببها التّنافس وإظهار العضل للإستيلاء على العروش الدّنيويّة. في الكنيسة قامت الإنشقاقات كلّها بسبب الكبرياء والعظمة: من يجب أن يخضع لإمرة الآخر، الشّرق أم الغرب؟ هذا وتلعب الوسائل العامّة اليوم دورا كبيرا في تهييج وتشجيع التنافس العدائي (الغير واقعي) فيفتكر المشاهد أنه فعلا للنّجاح في الحياة يجب تشجيع المنافسة العدائيّة، للوصول إلى هذا أو ذاك الهدف. كم وكم متواضعا يروح ضحيّة المنافسة في المجتمع. كما يقول المثل الدّارج: الّي حيطه واطي كل النّاس ابتطلع عليه. فالحياة كفاح بين الجالسين فوقا وبين الجالسين تحتا. بين الكبير والصّغير، بين المتكبّر والمتواضع. كفاح للحصول على الألقاب الزائفة. لا أحد يريد أن يتنازل للثاني.
هذه عقليّتنا، فلا مجال فيها للتّواضع، كأن العذراء لم تقل صلاتها من أجلنا: “حطّ المقتدرين عن الكراسي، ورفع المتواضعين”. ولكن هيهات أن نفهم ذلك، فالكبرياء تدعس على كلّ من يصمت ولا يريد الدّفاع عن حقوقه بالصّوت العالي. من يريد أن يقوم بدور العبد الّذي يصبّ ماء في معوى ويقوم ويغسل أرجل الفقراء والمتواضعين؟ ذلك يأتي لأنّ كثيرين يفهمون أنّ كلمة التواضع هي إذلال أن يصبح الكبير صغيرا! أنا أعطيتكم مثلا “من أراد أن يكون الأوّل بينكم فليكن كالآخر” (مرقس 35:9 + 43:10). كلمة المسيح تعزّينا حيث قال، كما سمعنا: “إن كلّ هذه الطّبقات من البشر لا تصلح لملكوت السّموات”.
الجلوس على طاولة المسيح لا يحتاج إلى هذه المنافسات المذلّة أحيانا. فلا خوف علينا فهو عنده مقاعد كافية ولكلّ واحد منّا على طاولته، حتّى ولو جئنا متأخّرين: فالأوّلون يصبحون آخرين، والآخرون أوائل. لذا يقول لنا المسيح: إذا دعيت فخذ المكان الأدنى واجلس فيه، حتّى إذا جاء الّذي دعاك، وهو يعرفك ويعرف قيمتك، دون أن تعرّف عليها أنت بكبرياء، (يا ناس ! شوفو مين أنا)! ويقول لك: قم إلى فوق! فيعظم شأنك! فمن رفع نفسه وضع، ومن وضع نفسه رفع!.
المسيح ينوي بهذه القصّة زرع الثّقة بالنّفس ونبذ المنافسة والحسد، إذ على طاولته مكان لكلّ الطّبقات من مرضى وأصحّاء (لوقا 22:14) والأماكن عنده لا توزّع بحب الظواهر بل بحسب تقديره لنا، هذا وهو يقدّرنا جميعا تقدير الأخ لأخيه، لذا فهو عنده مكان لنا جميعا على طاولته وفي فلبه.. ومن يعرف هذا لا يعد يهمّه ما هي الوظيفة الّتي يشغلها في حياته، فلا داعي للتركيض والمنافسة للحصول على أحسن وظيفة وعندما يدعى إلى حفلة أو وليمة لا يهمّه أن يأخذ أدنى وأبعد المقاعد، إذ عندما يراه صاحب الدّعوة سيعطيه المكان المناسب. ألا يعطينا تعليم يسوع درسا لحياتنا وعلاقتنا اليوميّة مع بعض، بحيث نقدّر بعضنا بعضا لا بحسب ما نملك وإنما بحسب قوانين الإحترام والإنسانيّة، فلا يكبرنّ أحد منكم على أخيه. إن الكبرياء هي خطر رفضنا في الملكوت والجلوس على طاولة المسيح الذي يحذّرنا بإنجيل اليوم قائلا: “من رفع نفسه وضع، ومن وضع نفسه رفع”.
بقلم : الأب منويل بدر – ألمانيا