جاء السيد المسيح ليلقي على الأرض ناراً جديدة، هي نار المحبة، لتقوم مكان النار القديمة التي هي: نار البغض والحقد والكذب والحسد والنميمة والكبرياء والكراهية والانانية ومحبة الذات والغيرة والسيطرة على الآخرين وتهميشهم…
نسعى اليوم في تأملنا هذه الآية إلى فهَم وإدراك قول السيد المسيح هذا، ونسأله أن يُطفىء في قلوبنا نار البغضاء القديمة باشكلها المتعددة، ويُضرم في قلوبنا بدلاً منها نار المحبة الجديدة، هذه النار، نار المحبة التي أرادها علامة فارقة لتلاميذه وأتباعه حينما قال: “أُعطيكم وصية جديدة: أحبوا بعضكم بعضاً، كما انا أحببتكم.. إذا أحبَ بعضكم بعضاً، عرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي” (يوحنا 13: 34-35).
1- النار القديمة
وهي نار لا تزال تشتعل في قلوب الناس منذ فجر الخليقة، وهي التي حملت قايين على قتل أخيه هابيل حسدا وبغضاً وغيرةً، وهي التي سبَبت للبشرية الويلات والمشاكل والحروب فقوَضت أركان الممالك ودكَت العروش وأزهقت الأرواح وأسالت الدماء ونشرت الخراب والدمار هنا وهناك.
هذه النار القديمة التي أشار إليها السيد المسيح: “وأما الذي يخرج من الفم، فإنه ينبعث من القلب، وهو الذي ينجَس الإنسان. فمن القلب تنبعث مقاصد السوء والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والنميمة. تلك هي الأشياء التي تنجَس الإنسان” (متى 15: 18 و19).
وليست هذه المقاصد الشريرة سوى ألسنة تلك النار التي تنجَس ولا تطهَر، تهدم ولا تبني ؛ لقد قال القديس بولس الرسول عن وصية المحبة انها تمام الشريعة (غلاطية 5: 14). فالذي يحب أخاه يحترمه ولا يسعى إلى إيقاع الأذى به ولا يطيل لسانه إلى صيته ولا يده إلى رزقه. ويمكننا القول أن البغض كالكبرياء جرثومة كل شرَ، وناره “تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله”، خلافاً للنار الجديدة التي جاء السيد المسيح يضرمها في قلوب الناس.
2- النار الجديدة
كان السيد المسيح ولا يزال: “أيةً مُعرَضة للرفض” (لوقا 2: 34)، كما قال فيه سمعان الشيخ، يوم قدَمه لله في الهيكل: “إنه جُعل لسقوط كثير من الناس، وقيام كثيرين منهم” (لوقا 2: 34). ومن عرفه مرَةً لا يمكنه أن يتناساه أبداً؛ ومن سمع بتعاليمه تعذَر عليه أن يتجاهلها فيما بعد؛ ولا سبيل إلى الوقوف منه موقف الحياد؛ فإما أن تجمع معه، كما قال، وإما أن نفرَق ونبدَد”.
وإن لم نكن عوناً له كنا حرباً عليه ، وإما أن نتقيَد بتعاليمه ونعمل على نشرها ، وإما ان نخرج عليها ونغمض العيون عن أنوارها . ولهذا قال الرب يسوع : ” جئت لألقي على الأرض ناراً ” . وهي نار محبته ومحبة القريب . وفي سبيل محبة الله والقريب أصبح واجباً على الإنسان أن يجاهد نفسه ليصلَح فيها أميالها المعوجَة ويخفف أهواءها الثائرة ، ليمكَن جذوة هذه المحبة من الإشتعال في قلبه ، وتطهيره من مآثمه
وخطاياه ؛ وهي محبة لا تتغذى نارها إلاَ بالتضحية والآلام ، ولا يلامس لهبها القلوب إلاَ إذا مال المؤمنون على إستعداد للذهاب كالسيد المسيح إلى أبعد حدود البذل والعطاء . ولهذا قال الرب يسوع , بعد أن أعلن عن هذه النار الجديدة : ” عليَ أن أقبل معمودية ، فأي كرب أعانيه حتى تتمَ ” . وقد شبَه آلامه بعماد يجب أن يغطس في حوضه ، ليتمكن من إضرام نار محبته الجديدة في القلوب .
3- الخلاف المزعج
وكما سلك السيد طريق التضحية ليعرب عن محبته للناس، لذا وجب على الناس أن يسلكوا الطريق عينيها ليعربوا عن محبَتهم. وكما تخلىَ عن مجده السماوي واتخذ “صورة عبد” (فيليبي 3: 7)، على حد قول القديس بولس الرسول، وجب على الإنسان أن يكفر بعاطفته البشرية، ليتمكَن من اللحاق بمعلمه الإلهي. ولهذا قال المسيح المخلَص “أو تظنون إني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا، بل الخلاف” (لوقا 12: 51). وهذا يعني أن يسوع لم يأتي ليترك الناس يعيشون على هواهم وكما تعوَدوا من تراخٍ وكسل، لا تثير همتَهم قضيَة، ولكنه أرادهم على نكران الذات والابتعاد عن الأهل والأقرباء والأحباء والأموال وخيور الدنيا وغناها، للسير وراءه وخدمته.
وإذا دارت المعركة في العائلة، نرى نارها تشتعل في وجدان المؤمن وفي خلوة ضميره. ومن آثر على السيد المسيح أماً أو أباً أو أخاً أو أختاً أو غير ذلك من كل ما يستهوي القلوب، كان غير جديراً به. “من كان أبوه أو أمه أحبَ إليه مني، فليس أهلاً لي. ومن كان ابنه أو ابنته أحبَ إليه مني، فليس أهلاً لي” (متى 10: 37). ذلك أنه يجب يكون السيد المسيح أول مخدوم، كا قال أحد الأباء القديسين.
وهذا الخلاف الناشب في داخل الإنسان، بينه وبين أمياله، بينه وبين أقرب الناس إليه، هذا الخلاف بالفعل مزعج، ولذلك قال يسوع عنه:
“أو تظنون اني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا، بل الخلاف”.
4- الخلاف الموحَد
هذا الخلاف عرفه يسوع وقاسى منه في داخل عائلته البشرية، وقد نشب الخلاف بينه وبين أفرادها حول رسالته. يقول القديس يوحنا
الانجيلي: “وكان اخوته أنفسهم لا يؤمنون به” (يوحنا 7: 6).
وإذا كان يسوع قد أطاع أبويه (لوقا 2: 51)، فإنه، مع ذلك، قد أظهر بوضوح انه في حالة نشوب خلاف بين واجب الطاعة لله والطاعة للوالدين، على المؤمن أن يطيع الله لا الوالدين. وهذا ما فعله يسوع يوم فقده والداه وذهبا يبحثان عنه، وعندما وجداه لاماه، فقال لهما: “لم بحثتما عني؟ ألم تعلما أنه يجب عليَ أن أكون عند أبي”.
وهكذا فالسيد المسيح لم يبذر بذار الخلاف، بل في الحقيقة، عمل على توحيد القلوب على محبة الله، والَفَ عائلة واحدة جديدة تربط بين أفرادها الرغبة في العمل بإرادة أبيه؛ وهي العائلة الكنسية، ينتشر أفرادها في العالم ، وتتسع آفاقها حتى تشمل الأرض والسماء بتعاليم ووصاياه الإلهية.
اللهم أطفىء فينا النار القديمة، نار البغض في القلوب والنفوس، واضرم فيها النار الجديدة، نار المحبة الإلهية اللاهبة.
بقلم: المطران كريكور كوسا