هذا موضوع شائك، وقد تضاربت الآراء فيه. ومعلوم أنّه لم تصل إلينا أي ترجمة عربيّة سابقة للإسلام، إلاّ أنّ هذا الواقع ليس دليلاً على عدم ترجمة الكتاب في الجاهليّة. وإليك عرض سريع لأهمّ الآراء: أمّا الأب لويس شيخو، فقد دافع عن وجود ترجمة في الجاهليّة، مؤيّداً رأيه بأدلّة عديدة [1]. وتبعه عبد المسيح المقدسي، في مقال قيّم ظهر في مجلّة “المشرق” [2].
ثمّ أخذ المستشرق أنطون باومشتارك (Baumstark) ينشر العديد من المقالات، ابتداءً من سنة 1929 حتى سنة 1938 لإثبات الرأي نفسه.
أمّا جورج جراف (Graf)، فقد أثبت أنّ الترجمات العربيّة التي وصلت إلينا لا ترجع إلى أيام الجاهليّة، ولكنّه يفترض وجود ترجمة عربيّة للكتاب المقدّس (أو لأجزاء منه) قبل الإسلام.
ثمّ ذكر الفريد جليوم (Guillaume) نصّاً من “السيرة النبويّة” لابن اسحق يستدلّ به على وجود ترجمة عربيّة لإنجيل يوحنّا في بداية القرن السابع الميلاديّ.
وعالج آرثر فوبس (Vôôbus) الموضوع باختصار، فتوصّل إلى النتيجة ذاتها التي كان قد توصّل إليها جورج جراف.
وكذلك فعل رابين (Rabin) في مقالة عن “اللغة العربيّة” التي كتبها لدائرة المعارف الإسلاميّة الجديدة. فأكّد أنّ بعض أجزاء الكتاب المقدّس كانت متداولة في الجاهليّة، وأنّ واضعيها من النصارى لا من اليهود.
وقدّم يوسف هننجر (Henninger) نظرة سريعة عن بعض الآراء، وأيّد أخيراً رأي جورج جراف.
ثمّ جاء يوشع بلاو (Blau)، فأنكر وجود ترجمة عربيّة للكتاب المقدّس سابقة للإسلام، اعتماداً على أدلّة لغويّة، وردّاً على رأي أنطون باومشتارك.
بعد هذا العرض لأهمّ الآراء [3]، نرى أن نختمه بتقديم رأي الدكتور جوّاد علي لإحاطته بموضوع الجاهليّة.
“ويظهر من بعض روايات الأخبارييّن أنّ بعض أهل الجاهليّة كانوا قد اطّلعوا على التوراة والإنجيل، وأنّهم وقفوا على ترجمات عربيّة للكتابين. أو أن هذا الفريق كان قد عرّب بنفسه الكتابين كُلاّ أو بعضاً، ووقف على ما كان عند أهل الكتاب من كتب في الدين. فذكروا مثلاً أن (ورقة بن نوفل) “كان يكتب الكتاب العبراني. ويكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب”. وقالوا: “وكان امرؤ تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العربيّ، ويكتب من الإنجيل بالعربيّ ما شاء الله أن يكتب”. وذكروا مثل ذلك عن (آميّة بن أبي الصلت). فقالوا أنّه كان قد قرأ الكتب المقدّسة، وقالو مثل ذلك عن عدد من الأحناف” [4].
وبعد ذكر هذه الأمثلة، ابدى المؤلّف رأيه قال:
” ولا يُستَبْعد وجود ترجمات للكتاب المقدّس في الحيرة، لما عُرف عنها من تقدّم في الثقافة وفي التعلّم والتعليم، ولوجود النصارى المتعلّمين فيها بكثرة. وقد وجد المسلمون فيها حينما دخلوها عدداً من الأطفال يتعلّمون القراءة والكتابة وتدوين الأناجيل؛ وقد برز نفر منهم، وظهروا في علوم اللاهوت، وتولّوا مناصب عالية في سلك الكهنوت في مواضع أخرى من العراق. فلا غرابة إذا ما قام هؤلاء بتفسير الأناجيل وشرحها للناس للوقوف عليها. وقد لا يستبعد تدوينهم لتفاسيرها أو لترجمتها، لتكون في متناول الأيدي، ولاسيّما بالنسبة إلى طلاّب العلم المبتدئين، وقد لا يُستبعد أيضاً توزيع بعض هذه الترجمات والتفاسير إلى مواضع أخرى، لقرائتها على الوثنيّين وعلى النصارى للتبشير” [5].
بقلم: الأب سهيل قاشا
المقال جزء من نشرة تعليميّة خاصة بطلاب “معهد القديس بولس للفلسفة واللاهوت” (حريصا – لبنان، 1999-2000)، تحمل عنوان: “التراث العربي المسيحي”
[1] لويس شيخو، النصرانيّة وآدابها بين عرب الجاهليّة، قسم 1، ص 20-22، 295-300، 304-306، 313-322.
[2] عبد المسيح المقدسي، نقل الكتب المقدّسة إلى العربيّة قبل الإسلام، (المشرق 31(1933) ص 1-12).
[3] راجع بهذا الخصوص بحث الأب سمير خليل في مجلّة “دراسات إسلاميّة مسيحيّة”، 1982.
[4] د. جوّاد علي، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 680:6.
[5] جوّاد علي 681:6.