“كلّمَ الله آباءنا من قديم بلسان الأنبياء مرّات كثيرة وبمختلف الوسائل، ولكنّه في هذه الأيّام الأخيرة كلّمنا بابنه”. بهذه الكلمات تبدأ الرسالة إلى العبرانيين (١:١)، فيبيّن لنا كاتبها حقيقة تحار فيها العقول وتتجاوز حدود المنطق: الله كلّم الإنسان بالرغم من المسافة التي تفصله عنه، الله أوحى بحقيقته عبر كلماتنا الضعيفة الواهية، ولو لم يفعل لما كانت بيننا وبينه علاقات شخصية، ولبقي ذلك اللامحدود الغامض والبعيد عن البشر. كلّمنا عبر الآباء والأنبياء، وكلّمنا أخيراً بابنه فقال لنا فيه كل شيء، فوصلت إلينا كلمته، نسمعها اليوم بآذاننا وسط جماعة المؤمنين ونقرأها مدوّنة في الكتب المقدسة، فندخل في سرّ الله عبر ما يوحي به إلينا.
الوحي في قاموس اللغة العربية هو ما يلقيه الله إلى أنبيائه فيعطيهم علماّ وفهماً. ويقابله الإلهام وهو أن يلقي الله في نفس الإنسان أمراً يبعثه على فعل شيء أو تركه. أمّا في اللغات الأجنبية فالوحي يعني أنَّ الله يكشف عمّا كان سرّاً ويعلّم الإنسان ما كان مجهولاً لديه من أمور تفوق الطبيعة. وأمّا الإلهام فيدلُّ على حركات وأعمال وأفكار مرجعها نفخ إلهي يشبه النفخ الذي يُدخل الهواء إلى الصدر، فيعمل المُلهِم كنسمة الهواء في النفس والروح.
وهكذا عبر الوحي تصل إلى الناس حقيقة الله، وعبر الإلهام يعمل الله في الكتاب المكرّم فيدفعه إلى أن يكتب ما أوحى به إليه.
أ – مراحل تكوّن الوحي
كان عالم الشرق القديم يعتقد بوحي إلهي يصل إلى البشر عبر أشخاص ملهمين، وهذا الاعتقاد عرفه التقليد اليهودي الذي كان يرى في العهد القديم مجموعة كتب أوحى بها الله حين أملى الشريعة على موسى فكتبها، وأرسل روحه على الأنبياء والحكماء فدوّنوا ما دوّنوه من أسفار مقدّسة. ولم يكن التقليد المسيحي أقل إيماناً بالكتب الموحاة. وتعتبر الكنيسة أنّها تسلّمت هذه الكتب وديعة تحافظ عليها وتستلهمها.
كيف تُحدّثنا أسفارُ العهد القديم عن الوحي؟ إنّها تستعمل كلمة “جلا” بمعنى كشف، عرّف، وكلمة “رأى” التي تدلّ على أنَّ الله يظهر فيسمح للإنسان بأن يراه ويعرفه (تك ۲۲:۱٤). ولهذا يسمّي الكتابُ النبي “حوزي” أي الرائي الذي يتلقّى رؤيا من الرب.
هذه العبارات تُشير إلى عمل العين والنظر، إنّما يجب أن لا نأخذها على حرفها كأنّنا نستطيع أن نرى الله بالعين المجردة. المقصود هنا هو أنّنا أمام لقاء بالرب واتصال بعالم السماء. لا شكَّ في أنَّ الله تراءى (ظهرَ) لإبراهيم عند سنديانة ممرا (تك ١۸:١)، ولموسى في العلّيقة المشتعلة (خر ۳:۲)، ولكنّه يتجلّى أيضاً بمجده فيعاينه كل بشر (أش ٤٠:۵، ٦٠:۲)، كما يتجلّى بعدله (۵٦:١) ورحمته (مز ۸۵:۸)، فيظهر أنّه الرب القدير (زك ۹:١٤) ويُعرف أنّه الحصن الحصين (مز ٤۸:٤).
والعين تلتقي الأذن، وظهور الرب ترافقه كلمات نسمعها. فالرؤيا التي يراها بلعام تتكوّن من كلمات سمعها ووضعها الله في فمه (عد ۲٤:۱۵ – ۱٤). ولمّا كشف الله عن ذاته لصموئيل عبر ندائه له، كانت رؤيا للرب إظهاراً لكلمة قالها له (۱ مل ۳:۱ – ۱۷، مز ۸۹:۲٠). وإذا كانت بعض الرؤى تمثّل اختباراً للعين (أش ٦:۱ ي، خر ۱:٤ ي) فرؤية الله تبقى طريقة تدل على أنَّ الله يكشف عن ذاته فيوصل إلينا رسالة ووعداً. يقول الكتاب : “وظهر (ورؤي) الله لإبراهيم وقال له : لنسلك أُعطي هذه الأرض” (تك ۱۲:۷، ۱۷:۱).
وهكذا يبدو الوحي نظراً وسماعاً، والأذن أهم من العين عندما تدوّي كلمة الله، فتفسّر الرؤيا (أش ٦:۸، حز ۲:۱، إر ۱:۱۱ – ۱٤) أو تكوّن هي نفسها الوحي والرسالة. وكم نقرأ هذه العبارة : “كانت كلمة الرب” (يوء ۱:۱، حز ۳:۱٦…)، أو تلك : “جعل الرب كلامه في فم نبيّه” (إر ۱:۹). ولهذا يعلن النبي : “اسمعو كلام الرب” (أش ۱:۱)، أو : “هذا هو الكلام الذي تكلّم به الرب…” (أش ۳۷:۲۲). وتبدأ أسفار الأنبياء بمثل هذه العبارات : “كلمة الرب التي كانت إلى هوشع” (۱:۱، رج مي ۱:۱، يؤ ۱:۱)، “الرؤيا التي رآها أشعيا” (۱:۱)، “الكلمة التي رآها أشعيا” (۲:۱).
كلمة الله في الكتاب ليست صوتاً يمرُّ عبر الأذن ليُرسل إلى العقل فكرة مجردة، بل هي قوة فاعلة تأتي (قض ۱۳:۱۲، ۱۷) فتتمُّ أمر الرب (۱ مل ۲:۲۷). إن كلمة الله قائمة بذاتها وهي تدوم إلى الأبد (أش ٤٠:۸)، يرسلها الله إلى العالم ولا تعود إليه قبل أن تتم ما أمرها به (أش ۵۵:۱۱). هي قوّة خلاقة توجه التاريخ بحسب مخطط الله.
ما قلناه عن كلمة الله يُفهِمُنا ما هو الوحي. فالله لا يُوحي إلينا في الكتاب بمشاهد رمزية تنتقل إلينا عبر رؤى خيالية، ولا يوحي إلينا بآيات ينطق بها في أُذن نبيِّه ليوصلها حرفيَّاً إلى شعبه. والوحي ليس مجموعة حقائق مجردة نتقبّلها بشكل تعليم منظّم أو نظرية فلسفية أو منهج لاهوتي. إنَّ الله يوحي إلينا بذاته كشخص حيّ، كخالق للكون ومنظِّم له (أش ٤۵:۱٤)، كإله قدّوس وصالح يدعو الناس إلى عبادة الله بالمحبّة (خر ۲٠:۱ ي، هو ۱۱:۱ ي)، كسيّد للتاريخ يوجّه الأزمنة والأحداث بحسب مخططه الخلاصي (خر ۱٤:۱۸، عا ۲:۹ ي، إر ۳۲:۲٠). وهو يتكلّم ليكشف عن مخطّطه هذا، ولكنّه يكشف كذلك عن ذاته بأعماله، عبر عجائب الطبيعة وأحداث التاريخ. وعندما يعلن اسمه لموسى لا يهدف إلى إظهار جوهره، بل إلى القول بأنّه الإله الأوحد الحقيقي الذي يقود تاريخ الخلاص من أقصاه إلى أقصاه.
في الوحي يكشف الله الغطاء عمّا كان مخبّأ عن البشر، وينشر ما كان مغطّى في ذاته. ولقد تحدّث التقليد اليهودي عن جلاء الحضور الإلهيّ قاصداً بذلك أنَّ الوحي هو خروج الله من ذاته ومجيئه إلى العالم قبل أن يكون حضور الله. يدخل الله العالم فلا يبقى غريباً وهوالذي أراد أن يراه ويسمعه ويعرفه شعب يلتقيه. ولقاء الإنسان بالله وحدة لا تتجزأ، غير أنّنا لا نستطيع التعبير عنه في اختبار واحد، بل نحتاج إلى اختبارات عديدة لأنَّ الإنسان المحدود الذي يريد التعبير عن الله اللامحدود لا يستطيع أن يستنفده مهما أكثر من التعابير. إنَّ الوحي أُعطي لشعب كامل عبر أشخاص متعدّدين عاشوا في أزمنة مختلفة وخبروا اللقاء الشخصي بالله. فعبر إبراهيم عرف الآباء الله، وعبر موسى عرف الشعب الله ورآه وجهاً لوجه وسمعه يتحدث إليه (خر ۱۹:۱٦ – ۲٠) ويُعطيه وصاياه، وعبر يسوع الذي هو وحي الآب الكامل عرفت الكنيسة الله، ولا يزال المؤمنون يعرفونه عبر الكتب المقدّسة التي تحتفظ بها الجماعة وتعتبرها قانوناً وأساساً لحياة المؤمنين وسلوكهم.
وهكذا نرى الله عبر تاريخ شعبه يرسل روحه فيتدخّل، أو يتدخّل هو ذاته، فيحمل كلمته إلى البشر بطرق متعددة وأشكال مختلفة، بالرغم من أنّه فوق كلمات الإنسان وأفكاره (أي ۲٤:۳)، وأنّه الإله الخفي (أش ٤۵:۱۵) الذي يصل إليه الإنسان بصعوبة، لا سيّمَا وإنّه خسر بالخطيئة هذه الدالة التي تجعله قريباً من الله. ويحسّ الإنسان بالحاجة إلى أن يعرف ويفهم طريقه ويجد النور الكافي لحياته، فيميل بأنظاره إلى الله، إلى الذي عنده خفايا الأمور (تث ۲۹:۲۹) ليكشف له عن أسرار تفوق إدراكه.
ولقد سعى الإنسان منذ أقدم العصور إلى أن يطّلع على أسرار السماء بواسطة أعمال التنجيم والعرافة وتفسير الأحلام والتنبّؤ بالغيب. ولجأ شعب الله إلى هذه الأساليب عينها بعد أن نقّاها قدر المستطاع من ارتباطها بعالم السحر والشرك (لا ۱۹:۲٦، تث ۱۸:۱٠ ي). وتنازل الله إلى مستوى شعبه الذي أخذ بهذه الأساليب وسلّم إله وحيه عبر هذه الوسائل الواهية والبعيدة عن الكمال. ونذكر على سبيل المثال الكهنة الذين يسألون الله بواسطة الأفود (ثوب الكاهن) والحجارة المقدّسة (اوريم – توميم. عد ۲۷:۲۱، ۱ صم ۱٤:٤۱) ويوسف بن يعقوب الذي كان يقرأ الغيب في كأس خاصة (تك ٤٤:۲ – ۵) أو من خلال أحلام الناس (تك ٤٠ – ٤۱) التي تحوي إشارات من السماء إلى البشر (تك ۲٠:۳، ۲۸:۱۲ -۱۵).
ولكنَّ هذه الأساليب سوف يتخلّى عنها الأنبياء، فيصل الوحي إليهم عبر الرؤى، وإن كان ما سيرونه سيمرُّ عبر صور ورموز معروفة في الشرق القديم (۱ مل ۲۲:۱٦، أش ٦:۱ ي، حز ۱) فيحتاج الإنسان إلى كلام الله لإدراك فحواها ومعرفة الحقيقة التي ينطق بها الله.
وهنا نرى موهبة النبوة تعمل في الأنبياء، وكان موسى واحداً منهم يلقي الله في فمه كلامه فيخاطب الشعب باسمه (تث ۱۸:۱۵ – ۱۹). ولهذه الموهبة وجهان. فهي أوّلاً وحي الله يتقبله النبي بطريق من الطرق (عد ۱۲:٦ – ۸). وهي ثانياً رسالة شخصية يبعثها الله إلى شعبه فيوصل النبيّ إليهم الوحي الذي تلقّاه. إنَّ الله يضع كلماته في فم الإنسان الذي يدعوه (إر ۱:۹، أش ٦:٦ – ۷)، فمن يسمع كلمات النبي يسمع كلام الله ذاته، ومن يرفض أن يسمع إلى الله (تث ۱۸:۱۹).
وموهبة النبوءة هذه ترتبط بالروح القدس، وقانون الإيمان يقول عنه إنّه الناطق بالأنبياء. فالروح يحل على النبي (عد ۱۱:۱۷، ۲۷:۱۸، قض ۳:۱٠)، ينزل عليه (قض ۱٤:٦ – ۹، ۱ صم ۱٠:٦ – ۱٠)، يدخل فيه (حز ۲:۲)، يشمله (أي إنّه يلبسه، ۲ اخ ۲٤:۲٠) بعد أن يضعه الله فيه (عد ۱۱:۱۷، ۲۹) ويفيضه عليه (يوء ۳:۱).
يُرسل الله روحه إلى إنسان فيبدّل أعماله وأقواله، ويُرسل روحه إلى عبده ليحمل الإنصاف إلى الأمم (أش ٤۲:۱) وإلى المساكين بشرى الخلاص (٦۱:۱). يرسله فيحمّله تعليماً عن اسم الله ومخطّطه الخلاصي وعهده مع شعبه (خر ۳:۱٤ – ۲٠، ۱۹:۳ – ۸)، ويلقّنه الوصايا وأصول العبادة ومبادئ العدالة والإنصاف والرحمة. يرسله إلى الأنبياء فيكون كلامهم نداء إلى التوبة يرافقه وعيد وتهديد إذا رفض الشعب التوبة، ويكون وعداً بالخلاص الذي يتوضّح في أعمال الله الآتية. ينزل الروح على رجال الله فيحرّك قلوبهم ويوجّه حياتهم وأعمالهم، ويجعلهم يعيشون هذا الوحي ويعلنونه ويكتبونه كلاماً نقرأه في كتاب.
إنَّ عمل الروح الذي يستولي على الإنسان يدفعه إلى العمل والكلام، قبل أن يدفعه إلى الكتابة. يسيطر عليه فيدفعه إلى القيام بأعمال عابرة، كما دفع جدعون ويفتاح وصموئيل (قض ٦:۳٤، ۱۱:۲۹، ۱٤:٦ – ۹)، أو إلى القيام بأمور هامة لها تأثير على شعب الله، كما فعل مع موسى الذي جعل روحه عليه ليؤسِّس العهد (أش ٦۳:۱۱)، ومعه داود ليقود شعبه (۱ صم ۱٦:۳)، ومع أنبيائه ليؤدّوا دورهم في توجيه مصير إسرائيل.
ويسيطر الروح على النبي فيدفعه كذلك إلى الكلام. قال عاموس : “زأر الأسد فمن لا يخاف؟ تكلّم الرب فمن لا يتنبّأ” (۳:۸)؟ ولقد قال الرسل كلاماً مماثلاً يوم هدّدهم رؤساء المجمع اليهودي وأنذروهم بأن لا يعودوا إلى ذكر اسم يسوع أمام أحد : “لا يمكننا إلا أن نتحدّث بما رأينا وسمعنا” (أع ٤:۱۷ – ۲٠). وفي هذا السبيل قال القديس بطرس في رسالته الثانية : “ما من نبوءة على الإطلاق جاءت بإرادة إنسان، ولكن الروح القدس دفع بعض الناس إلى أن يتكلّموا بكلام من عند الله” (۱:۲۱). فليس النبي من يخبر بالغيب أو المستقبل فحسب، بل هو خاصة من يتكلّم باسم الله وبإلهام منه فيعلّم الشعب ويوجّهه.
ويسيطر الروح على من يختاره الرب فيدفعه أيضاً إلى الكتابة. قال الرب لموسى بعد انتصاره على بني عماليق : “أكتب هذا الكتاب لتتذكّروه” (خر ۱۷:۱٤). وقال له في نهاية إعلان العهد : “أكتب لك هذا الكلام، لأني بحسبه عقدت عهداً معك ومع إسرائيل” (خر ۳٤:۲۷). ولقد كتب يشوع بنود العهد في شكيم (يش ۲٤:۲٦)، وصموئيل دستور المملكة (۱ صم ۱٠:۲۵). ولقد طلب الرب إلى أشعيا (۳٠:۸) وحبقوق (۲:۲) ودانيال (۸:۲٦، ۱۲:٤) ويوحنا صاحب سفر الرؤيا (۱:۱۹) أن يكتبوا ما رأوه وسمعوه في سفر ليبقى لليوم الأخير. وطلب أيضاً إلى إرميا وألحَّ عليه في أن يكتب في كتاب جميع الكلمات التي كلّمه بها (۳٠:۲، ۳٦:۲)، وأن يعيد كتابة الكلام كما كان في الدرج الأوّل الذي أحرقه يوياقيم ملك يهوذا (۳٦:۲۸). وعلى هذا عمل التقليد اليهودي اللاحق فأنشأ مكتبة جمع فيها أخبار الملوك والأنبياء وكتابات داود…(۲ مك ۲:۱۳)، وسمّيت هذه الكتب الأسفار المقدّسة (۱ مك ۱۲:۹) أو الكتاب المقدّس (۲ مك ۸:۲۳). وجاء المسيحيون الأوّلون فسمّوا هذه الكتب “الكتب المقدّسة” (روم ۱:۲) أو “الكتاب” (مر ۱۲:۱٠) الذي نجد فيه كلام الله (۷:٦، ۱۳) ووحي روحه القدّوس (مت ۲۲:٤۳، أع ۱:۱٦). ولقد قال القديس بولس في رسالته الثانية إلى تلميذه تيموثاوس : “فالكتاب كلّه من وحي الله، يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، ليكون رجلُ الله كلاماً مستعدّاً لكل عمل صالح” (۳:۱٦ – ۱۷).
إنَّ كلمة النبي التي تصل إلى البشر بتعابير مختلفة تساوي كلام الله بسبب الموهبة التي أعطاها الله للنبيّ. فإن كتبَ النبي بيده كلامَ الرب (إر ۲۹) أو أملاه على كاتبه (۳٦:٤) أو أودعه ذاكرة تلاميذه (أش ۸:۱٦)، فهذا العمل الكتابي هو امتداد لعمل الروح القدس الذي يرافق كلمة الله منذ ظهورها على النبي حتى كتابتها وتدوينها.
ب – العهد الجديد
ذكرنا في سياق كلامنا أنَّ العهد الجديد سمّى كتب موسى والأنبياء والحكماء والملوك كتباً مقدّسة. بيد أنّنا نودُّ أن نتوقّف على آيتين من العهد الجديد اكتفينا بذكرهما، لم فيهما من تعليم خاص بالوحي ومفاهيمه في الكتاب المقدّس.
الآية الأولى قرأناها في الرسالة الثانية إلى تيموثاوس وهي تعلن أنَّ الكتاب من وحي الله. إنَّ المقطع (۳:۱٤ – ۱۷) الذي نقرأ فيه هذه العبارة يحدّثنا عن الأمانة للتقليد والكتاب المقدّس. إنَّ المعلمين الكذبة يتركون التعليم الذي تلقّنوه فيتخلّون عن الأقوال الصحيحة، أقوال ربّنا يسوع المسيح والتعليم الموافق للتقوى (۱ تم ٦:۳)، ويعلّمون تعاليم مخالفة (۱ تم ۱:۳) فيتيهون في مجادلات سخيفة (۲ تم ۲:۲۳، تي ۳:۹) فلا يصلون إلى معرفة الحق. أمّا تيموثاوس قيجب أن لا يعيش مبلبلاً مزعزعاً، لأنَّ إيمانه يستند إلى أّسس ثابتة ومتينة، إلى التقليد والكتاب، إلى ما نقرأه في أسفار العهد القديم وإلى ما وصل إلينا من أقوال الرسل وشهاداتهم وأدلّتهم.
في آ ۱٤ يحرّض بولس تيموثاوس على أن يثبت على ما تعلّمه، فيحافظ على الوديعة المؤتمن عليها (۱ تم ٦:۲٠،۲ تم ۱:۱٤)، فهو لا يستطيع أن يسلّم إلى الغير إلاّ التعليم الذي تسلّمه (۱ كور ۱۱:۲۳، ۱۵:۱ – ۳)، ذاك الذي أخذه عن جدته لوئيس وأُمّه أونيكة (۲ تم ۱:۵)، يوم كان بعد حدثاً، والتعليم المسيحي الذي تلقّاه من يد مسيحيين من لسترة (أع ۱٦:۱، ۲ تيم ۲،۲) قبل أن يدخله بولس في سر المسيح (أف ۳:۲ – ۵، كو ۱:۲۵ – ۲۹).
في آ ۱۵ نقرأ أنَّ تيموثاوس يعرف الكتب المقدّسة منذ طفولته. هل يعني بولس بالكتب المقدّسة أسفار العهد القديم وحده أم أسفار العهدين القديم والجديد؟ إذا توقّفنا عند طفولة تيموثاوس، نرى أنَّ بولس يقصد أسفار العهد القديم التي كان لها شأن كبير في إعداد الناس لقبول سر الخلاص في المسيح، فأعطتهم الحكمة الحقيقية (۱ كور ۱:۱۷ – ۲:۹). أمّا إذا تطلّعنا إلى أهمّية الكتب المقدّسة في حياة تيموثاوس كلها، فنرى أنَّ بولس يقصد أسفار العهد القديم والعهد الجديد، ولنا مثال على ذلك ما نقرأه في رسالة القدّيس بولس الأولى إلى تيموثاوس (۵:۱۸) وفيها يُسند بولس كلامه إلى آية من العهد القديم (تث ۲۵:٤) ذمَّ إلى آية من العهد الجديد (لو ۱٠:۷) ويعتبر أنّه أخذ الآيتين من الكتاب.
أمّا في آ ۱٦ فنقرأ : “الكتاب كلّه”. ويعني بولس بذلك مجموعة الأسفار المقدّسة كما يعني كل مقطع من مقاطع الكتاب. هل يقصد بولس معظم كتب العهد الجديد وقد كانت مكتوبة يوم كتب رسالته هذه إلى تلميذه تيموثاوس؟
نتوقّف على الكلمة اليونانية (ثيوبنفستوس) وهي تعني “همس الله ووحيه” (نقرأ في السريانية : كل كتاب كُتب بالروح. وفي اللاتينية الشعبية : كل كتاب موحى بوحي الله).أمّا قال أثيناغوراس (القرن الثاني) في عريضته إلى الأباطرة بشأن المسيحيين (عدد ۹) : إنَّ الروح القدس يتكلّم بالأنبياء كالعازف الذي ينفخ في مزماره؟ نحن نقرأ الكتاب فنسمع همس الله وندخل في وحيه. ولقد أعلن بولس حقيقة وحي الكتاب فإذا هي عقيدة معروفة لا تحتاج إلى برهان. وهذا الكتاب يساعد رجل الله، خلال أعماله الرسولية، على التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب، ويساعده على السلوك المسيحي ليكون مستعدّاً لكل عمل صالح.
أمّا المقطع الثاني الذي أوردناه فهو مأخوذ من رسالة القدّيس بطرس الثانية (۱:۱۹ – ۲۱). إنّه يبيّن لنا عمل الروح في إعلان كلام الله وتفسيره.
في آ ۱۹، “كلام الأنبياء” يعني أسفار الكتاب المقدّس بما فيها الأسفار التاريخية (يشوع، القضاة، الملوك…) والحكمية (نشيد الأناشيد، الأمثال، الجامعة…). فكل كلام أو خبر نبويّ هو مُلهَم، وعلينا أن نُعنى به في هذا العالم المظلم، لأنَّ النبوءة تشبه سراجاً يضيء جوانب البيت إلى أن يُطلُّ النهار، أي يسوع المسيح. إنَّ النبوءات التي توجّه أنظارنا إلى المسيح، تُصبح أثبت وأمتن وتدفعنا إلى عالم اليقين عندما نعرف أنّها تمّت في شخص المسيح. إنتظر الناس المسيح نوراً يضيء على الكون (أش ٦٠:۱ – ۳، ۱ يو ۲:۸)، وجاءت كلمات الأنبياء فأنارت لنا الدرب الموصلة إلى ذلك النور الذي بدا متجلّياً على الجبل (۲ بط ۱:۱۷ – ۱۸) وشعَّ في قلوب المؤمنين فرحاً ورجاءً، بانتظار أن يكون ضياءً كاملاً يوم رجوع المسيح في المجد.
وفي آ ۲٠ نعلم أنَّ النصوص الكتابية التي ازدادت ثباتاً لدينا بمجيء المسيح، لا تُظهر لنا كامل نورها إلاّ إذا أرشدنا أحد إليها (أع ۸:۳٠ – ۳۱) وفتح أذهاننا لنفهمها (لو ۲٤:٤۵). ولذلك يحذّر القدّيس بطرس هؤلاء المتعلّمين الذين لا خبرة لهم : نصّبوا نفوسهم معلّمين (يع ۳:۱) وأخذوا يشرحون النصوص على هواهم. هكذا فعل الهراطقة، وهكذا يفعل المعلّمون الذين يلجأون إلى الكتاب المقدس ليعرضوا نظرياتهم الخاصة. ولقد قالت الكنيسة كلمتها في هذا الموضوع : “لقد قرّر المجمع، بغية كبح جماح بعض العقول الصعبة المراس (الذين يدرسون) أمور الإيمان والأخلاق التي هي جزء من بناء العقيدة المسيحية، فلا يحق لأحد أن يتجرأ، معتمداً على إدراكه ورأيه، فيحوّل الكتاب المقدّس إلى معنى خاص به، فيخالف المعنى الذي تمسّكت به أُمّنا الكنيسة وما تزال. فلها وحدها يعود الحكم على معنى الكتب المقدّسة وعلى تفسيرها التفسير الصحيح. ولا يحقُّ لأحد أن يفسّر هذه الكتب المقدّسة خلافاً لما أجمع عليه الآباء…”. ولقد ندّد القدّيس كيرلّس الأورشليمي في كرازاته عن العماد (۱۱/۱۲، ۱٦/۲، ۲٤) بفضولية أولئك المتهوّرين الذين ينحدرون إلى الكفر بفعل تقواهم المزعومة فيقعون في أمور لم يوحِ الروح القدس بكتابتها.
وتثبت آ ۲۱ أنّه لا يحقّ للمفسّر أن يتصرّف بالكتاب على هواه وكأنّه ملكه الخاص، لأنّه كتاب مقدّس يحمل إلينا كلام الله عبر البشر. لقد قال التقليد اليهودي، وتبعه في ذلك التقليد المسيحي : إنَّ النبي لا يتكلّم من ذاته، إن هو إلاّ صدى لصوت آخر، صوت الله، وترجماناً له. وأعلن مجمع المعلّمين : “إن قال أحد إن التوراة (أي كتب موسى الخمسة) هي من الله، ما خلا آية واحدة ليست من الله بل من موسى… فقد احتقر كلام الله”.
وتقابل هذه الآية إرادة الإنسان ومبادرته بالروح القدس الذي يدفع النبي ويقوده ويحمله كما يحمل الهواء السفينة ويجرّها بسلطانه المطلق. إنَّ هذه الكلمات هي من وحي الروح، والوحي هو صوت الله، وشفاه الأنبياء هي أداة يلجأ إليها الله ليُسمع صوته. ولهذا فالكلمات التي يتلفّظ بها البشر هي بالحقيقة كلام الله (۱ تس ۲:۱۳)، وتتمتع بسلطان مطلق على العقول والقلوب، وتحتوي على ينابيع النور والحياة (۲ تم ۳:۱٤ – ۱۷).
وهكذا يأتي الوحي إلينا عبر حروف وكلمات وجمل وفصول تكوّن الكتاب المقدّس. هذا الكتاب، الله هو كتابه، ومسؤوليته في وضعه مباشرة. وإن لجأ الله إلى إنسان، فهو الذي يملي عليه ما يكتب، فيُصبح الإنسان أداة بين يديه وقيثارة تصل إلينا عبرها معرفة الأمور الإلهية.
غير أنَّ النظرة المسيحية تختلف في هذا المجال عن النظرة اليهودية والإسلامية. فالإسلام لا يميّز بين الوحي والإلهام، كما أنّه يعتبر أنَّ النص الملهم هو الوحي لأنّه أمليَ إملاه.فالقرآن هو كتاب الله الأزلي واللامخلوق، وكلمة الله القائمة فيه أُنزلت على الناس. أمّا اليهود ففي تقليدهم أنَّ “التوراة” هي كائن فائق الطبيعة، بل هي إلهية، أزلية ولا متغيرة. ولهذا لن يأتي موسى آخر أو توراة أخرى. فكل الكتب تزول، أما كتاب موسى فلا يزول.
أمّا العقيدة المسيحية، وهي مؤسسة لا على كتاب بل على شخص يسوع المسيح، فهي تميّز بين الوحي والإلهام، وتشدّد على دور الإنسان في تدوين الوحي الذي وصل إلينا بعبارات بشرية وكلمات الناس اليومية. قلنا إنَّ الله هو واضع الكتاب المقدّس. ونقول أيضاً إنَّ الإنسان هو واضع الكتاب المقدّس. لا شكَّ في أنَّ مبادرة الوحي ترجع إلى الله، ولكنَّ الإنسان هو الذي يكتب فنكتشف شخصيته وطباعه من خلال ما يكتب. إنَّ الله يؤثّر في الكاتب الملهم، يؤثّر في إرادته فيدفعه إلى الكتابة، ويؤثر في عقله فيعطيه فهم الأمور الإلهية والقدرة على إيصالها إلى البشر بطريقة تساعدهم على فهمها بقدر ما يستطيع الإنسان أن يفهم أمور السماء. غير أنَّ الكاتب هو الذي يكتب، ويتّخذ الأسلوب الأدبي والكلمات والتعابير التي يراها مناسبة لعصره وزمانه. وكما أنَّ يونان قاوم نداء الرب ورفض أن يحمل كلامه إلى أهل نينوى فهرب من وجهه إلى مكان بعيد، هكذا يستطيع الكاتب الملهم أن يرفض الاستجابة إلى نداء الله. هذا هو سر الحرية التي يتمتّع بها الإنسان بمنّة من الله، والله لا يندم على عطاياه مهما كانت نتائجها. يعطينا الحرية ويرانا نخطأ بفعل حريتنا، ولكنّه لن يسلبنا إيّاها أبداً لأنّنا بها وبعقلنا مخلوقون على صورته ومثاله.
نقول هذا لنشدّد على دور الإنسان الذي يكتب كلام الله. ولكنّنا نقول من جهة ثانية : إنَّ الإنسان، عندما يكتب، لا يعود حراً في أن يقول ما يشاء، فهو يحمل كلام الله، والله يسهر على كلمته (إر ۱:۱۲ – ۱۳)، فلا يسمح بأن يضيع منها حرف (۱ صم ۳:۱۹). إنَّ الله أوصل وحيه كله إلى الناس، ولكنًَّ هذا الوحي جاء معصوماً من أي خطأ أو ضلال. وعندما نعلم أنَّ الوحي وصل إلينا عبر يسوع المسيح، الكلمة المتجسد، ندرك أنَّ الله ذاته جاء إلينا بشخص الابن الوحيد وحمل إلينا كلامه. نحن نشدّد، في الكتاب المقدّس، على دور الله ودور الإنسان معاً، ولا نخاف على الإنسان من الله ولا على الله من الإنسان، لأنَّ يسوع المسيح الوسيط بيننا وبين الله هو إله وإنسان. إنَّ المسيح هو الإله الذي لم يَخفْ أن يخلي ذاته ويتّخذ صورة عبد ويصير شبيهاً بالبشر (فل ۲:٦ – ۷) في كل شيء ما عدا الخطيئة (عب ٤:۱۵، روم ۸:۳)، وهو الإنسان الذي بقي متّحداً بالله. هو في الآب والآب فيه (يو ۱۷:۲۱).
وهكذا، فكلام الله الذي نقرأه هو على شبه الكلمة المتجسّد، فيه وجه إلهي ووجه بشري. الله يوحي إلى البشر، والبشر يتلقّون هذا الوحي بأجسامهم الضعيفة وحياتهم الواهية وحريتهم المجروحة بالخطيئة وعقلهم المعرّض للخطأ. غير أنَّ هذا الوحي يبقى كلام الله مهما انتابه من ضعف لدى البشر، كما أنَّ جسد المسيح الذي يتناوله المؤمنون في القدّاس يبقى هو عينه، أتناوله البار أو الخاطئ، التقي أو الشقي.
ج – كلام الله في يسوع المسيح
إنَّ الوحي الذي بدأ في العهد القديم وجد كماله في العهد الجديد. في العهد القديم وصل إلينا عبر أشخاص عديدين، أمّا في العهد الجديد فقد جُمع الوحي في شخص يسوع المسيح الذي هو موضوع الوحي وواضعه، أي إنّه هو الذي يكشف عن ذاته دون اللجوء إلى وسيط. ونميّز هنا مرحلتين : في الرحلة الأولى يسلّم يسوع الوحي إلى تلاميذه، وفي الرحلة الثانية يسلّمه التلاميذ والكنيسة من بعدهم إلى البشر بتوجبه من الروح القدس. وهذا الكشف عن سرّ الله الذي تجلّى لنا بالمسيح، سيصل إلى الناس عبر الكلام المعلن لهم في الوعظ أو المكتوب في أسفار العهد الجديد التي جاءت تكمّل أسفار العهد القديم.
كشف يسوع عن ذاته عبر حياته وأعماله وكلامه “فأعلن ما كان خفيّاً منذ إنشاء العالم” (مت ١٣:٣٥، رج مز ٧٧:٢)، وبيّن لتلاميذه معنى الكتب المقدّسة التي تنبأت عن آلامه وموته وقيامته، فما بقي خفيّ إلاّ وظهر وما ظلَّ مكتوب إلاّ وأُعلن (مر ٤:٢٢). وكشف يسوع عن ذاته عبر شخصه الذي لا يرقى إليه إنسان لولا وحي الله، لأنّه ما من أحد يعرف الابن إلاّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن ومن شاء الابن أن يظهره له (مت ١١:٢٧). حينئذ عرف الرسل أنَّ جسد يسوع، هذا الجسد الضعيف، هو مسكن الله ومركز مجده على الأرض (يو ١:١٨)، وأنَّ من رأى يسوع فقد رأى الآب (يو ١٤:٩). وهكذا استطاع يوحنّا أن يكتب في رسالته الأولى : “الذي سمعناه ورأيناه بعيوننا، الذي تأملناه ولمسته أيدينا… نبشّركم به” (١:١ – ٣). وقال أيضاً : “نحن رأينا وشهدنا أنَّ الآب أرسل ابنه مخلّصاً للعالم. فمن اعترف بأنَّ يسوع هو ابن الله ثبت الله فيه وثبت هو في الله” (٤:١٤ – ١٥).
هذا الوحي الذي سلّمه يسوع إلى الرسل وعدد قليل من الناس (في أع ١:١٥، نقرأ أنَّ الحاضرين في العليّة كانوا مئة وعشرين) قد عاشته الكنيسة وفهمته على ضوء موت المسيح وقيامته، فحملته إلى الكون كله متشدّدة بالروح القدس ومعتمدة على أنواره (أع ١:٨، ٢:١، يو ١٤:٢٥، ١٥:٢٦). وها قد وصل هذا الوحي إلينا اليوم بواسطة الكنيسة فعرفنا نحن أيضاً سر الله ودخلنا في مخطّطه الخلاصي.
د – كيف ندخل في عالم الوحي؟
أوّل الوحي نور ينزل على إنسان فيملأ قلبه خوفاً من عظمة الله، ما يعتّم أن يصبح دالّة وثقة بذلك العظيم الذي تنازل وكشف عن ذاته للبشر.
يرى رجل الله هذا النور (أع ٩:٣) ويسمع كلاماً يبيّن له الرسالة التي يتحتّم عليه أن يحملها، فيحاول أن يعبّر بكلمات البشر عن اختبار يفوق ما تختبره عامة البشر، فيلجأ إلى الصور والرموز التي تقرب اختباره إلى أذهان الناس. على هذا النحو صوّر أشعيا الله العظيم بشكل ملك جالس على عرشه (أش ٦:١). ولجأ حزقيال إلى صورة رجل له أربعة أوجه ليدل على نظر الرب الذي يراقب أطراف الكون كله (١:٦). وصوّر يوحنا الشرَّ بعشرة رؤوس وعشرة قرون ليبيّن لنا قدرته الفائقة وسلطانه العظيم (رؤ ١٢:١، ١٣:١) قبل أن يقهره المسيح بموته وقيامته.
تسمع الجماعة إذاً تعبيراً عن وحي يحمله “النبي”، فتردّده في صلاتها، وتتأمل فيه على ضوء حياتها اليومية، فتجد فيه نور الرجاء رغم الظلام الذي يّحيق بها.هكذا فهمت جماعة “مساكين الرب” كلمات أشعيا، فتشدّدت وانتظرت مجيء المسيح المخلّص الذي سيملأ الأرض من معرفته (١١:٩) وسلامه ونوره (٩:١ – ٥). وهكذا قرأت الجماعة المسيحية الأولى سفر الرؤيا، فوجدت فيه كلام العزاء رغم الاضطهاد الذي شُنَّ عليها : “سمعتُ صوتاً عظيماً من العرش يقول (عن أورشليم – المدينة المقدّسة) : ها هو مسكن الله والناس. يسكن معهم ويكونون له شعباً. الله نفسه معهم ويكون لهم إلهاً. يمسح كل دمعة تسيل من عيونهم فلا يبقى موت ولا صراخ ولا وجع، لأنَّ الأشياء القديمة زالت” (٢١:٣ – ٤).
وتعيش الجماعة من هذا الوحي، وتتعمّق فيه على هدى الروح القدس، فلا تضلّ ولا تخطئ. فالروح القدس الذي أرسله الآب باسم الابن سيعلّمنا كل شي، ويجعلنا نتذكّر كلام الله كلّه (رج يو ١٤:٢٦). والروح القدس هو الذي يوحي إلى الجماعة لتعمل وتتكلّم باسمه. فإنّنا لسنا نحن المتكلّمين، بل روح أبينا السماوي هو الذي يتكلّم فينا (رج مت ١٠:٢٠).
ويأتي يوم لا يبقى فيه الوحي إعلاناً وكرازة فحسب، بل يصبح كلاماً مكتوباً في كتاب. هذا ما فعله الكهنة يوم دوّنوا كلمات الله إلى موسى. وهذا ما فعلته جماعة المؤمنين يوم دوّنوا وحي الله إلى أشعيا. وهذا ما فعله الإنجيليّون الأربعة يوم كتبوا حياة المسيح ورووا لنا أعماله وأوصلوا إلينا كلامه كما عاشته الكنيسة الأولى وتأمل فيه رسل المسيح وتلاميذه والمؤمنون.
هذا الوحي انتقل إذاً من شخص أو بضعة أشخاص إلى جماعة عن طريق الخبرة والكلام قبل أن يدوّن في كتاب. وروح الرب رافقه يوم عبّر عنه الأنبياء، ويوم ردّدته الجماعة، ويوم دوّنه الكتّاب الملهمون. وهكذا وصل كلام الله إلى الكنيسة التي تتمتّع هي أيضاً بأنوار الروح القدس، فحملته ولا تزال انطلاقاً من أورشليم واليهودية والسامرة وحتى أقاصي الأرض (أع ١:٨).
أجل، إنَّ الله تكلّم قديماً على لسان الآباء والأنبياء، وتكلّم أخيراً بواسطة ابنه الذي هو بهاء مجده وصورة جوهره (عب ١:١ – ٣). ولا تزال كلمته حاضرة في الكنيسة يسمعها المؤمنون في اجتماعات الصلاة وحفلات الليتورجيا، ويقرأونها ويردّدونها في حياتهم اليومية، فيعرفون الله ويفقهون وصاياه وإرشاداته ويوجّهون أعمالهم بحسب تعليمه. وإذا كانت الكنيسة امتداداً لشخص المسيح، وكانت جسده (كو ١:٢٤)، فالوحي الإلهي الذي وصل إلينا عبر المسيح الإنسان، ومجد الله الذي تجلّى لنا عبر المسيح المتجسّد، لا يزالان بيننا بواسطة الكنيسة. فللرب المجد في الكنيسة وفي يسوع المسيح على مدى جميع الأجيال والدهور آمين (أف ٣:٢١).
بقلم: الأب أنطوان طحان