” يا سّيد ليس لي إنسان”
كم هو غريبٌ هذا العالم الذي نعيش فيه! أينما التفتَّ بنظرك تشاهد وجعاً وظلماً وبغضاً وتوتّراً وخطيئةً وعنفاً وحرباً وبؤساً. لماذا يا تُرى؟
ولماذا توجد هذه الأشياء مع الجمال الطبيعيّ، مع الُحسن الإلهي الذي لا نظير له، ومع عظمة الإنسان؟ لماذا يتعاقب الخير والشرّ؟ لماذا يخالط البؤسُ الفرحَ؟ ولماذا هذا الصراع الدائم بين التساؤل المستمرّ عن غياب الله وعدم وجوده، وبين ذلك الشعور السريّ بالحضور الإلهيّ؟
لا يوحي لنا هذا العالم بظهورٍ إلهيًّ واضحٍ، يمكن الإحساس بحضوره، أو إدراكه عقليّاً ومنطقيّاً. على الأرجح لا وجود لمثل هذا الإله. البحث العقلانيّ عنه يقود إلى تشكيكٍ مؤلم. حياةٌ ديناميكيّةٌ، ولكن دون معنى. جمالٌ لا حدود له بخاتمةٍ محتّمةٍ هي الموت. تتلاحم، إلى حدًّ بعيدٍ، حاجتُنا إلى كلّ شيءٍ مع خيبة الأمل في الوقت الحاضر. بؤسٌ يقود إلى تعاسةٍ وإلحاد.
لكنّ هذا العالم لا يُحتمل بدون الله. كلّ تفكيرٍ ينفي وجودَه يسبّب خيبة أملٍ عميقةٍ، ويسبّب الشعور بالفراغ، وتلاشي سبب الوجود وهدفه، ويخلق توجّهاً غير واضحٍ، وغياباً لمعنى الوجود. فالإحساس بعدم وجود الله لا يُسهّل تشويش وقتنا الحاضر فقط لكنه أيضاً يخنق آفاق مستقبلنا اللامحدود والأمل بحياةٍ أفضل. على النقيض من ذلك، فإنّ حضور الله يخلق أملاً ونوراً وتوجّهاً هادفاً. يُظهر المقطعُ الإنجيليّ الله حياً فاعلاً متدخّلاً في التاريخ. نقرأه لكي نستنير ونتعزّى. ثّمة الكثير من الأحداث الإنجيليّة التي تكشف حضور الله. العجائب تؤكد قوّتَه ومحبّته. والطريقة الجليّة والواضحة التي كُتب بها هذا المقطع الإنجيليّ تُقْنع بمصداقيّة وأصالة أقواله. تقرؤه وتصرخ “معنا هو الله فاعلموا وانهزموا أيّها الأمم، لأنّ الله معنا”. الله معنا، هذه القناعة هي نبع قوتّنا. الإنجيل لا نقرؤه لكي يقنعنا، نفتحه لأننا نؤمن ونأمل أن نستنير.
ولكنّ قراءة الإنجيل تكون مزعجة أحياناً، وبدلاً من أن تقوّينا فإنها تُعثّرنا، وبدل أن تبني تهدم، وعوض أن توضح لنا تضعنا في حيرة.
تبيّن حقائق تتعجّب عند قراءتها، ولكن عند التفكير بها تقودك إلى مآزق شديدة لا مخرج منها. النظرة الأولى لعجيبة شفاء المشلول في بركة بيت حسدا، كما يسردها الإصحاح الخامس من إنجيل يوحنا، تُظهر التأثير الكبير لقوّة يسوع الإلهيّة. بالفعل، فهو بكلمته فقط يحقّق العجيبة المنتظرَة النادرة، والتي كانت تحدث في البركة، ويقدَّم الراحة بشفائه المفاجئ وغير المنتظر واللامشروط. ولكن قراءةً أدقّ لظروف المقطع الإنجيليّ تغيّر المشهد، وتولّد تساؤلاتٍ تربك إيماننا. تستفز وتربك الإنسان العقلانيّ بطريقةٍ حرجةٍ ودون رحمة.
إنسانٌ مقعَدٌ منذ ثمانٍ وثلاثين سنةً يختارُه الربُّ فيَشفيه بطريقةٍ ممّيزة. يُظهر الإنجيليّ يوحنا باختصارٍ الشفاءَ العجائبيّ. وفي حين أنّ النتيجة تعضُد الإيمان إلا أنّ التفاصيل تهزّه. برِكةٌ من الماء وحولها، بحسب الإنجيليّ، “جموعٌ كثيرةٌ من المرضى والعميان والعرج ينتظرون تحريك الماء”. حول البركة جمعٌ من الناس المتألمين والمفجوعين والمملوئين أسىً، كلٌّ منهم لديه ألٌم وأملٌ، ولكنه أملٌ تنافسيّ. الجميع ينتظرون مجيء الملاك لكي يحرّك الماء في البركة، وحالما يدركون مجيئه فإنهم جميعاً، وبكل ما تبقّى من قواهم الطبيعيّة، وبدافعٍ كبيرٍ من رغبتهم الداخلية يحاولون أن يتوجّهوا نحو البركة لأنّ “الأول الذي ينزل بعد تحريك الماء يبرأ من أيّ مرضٍ”، إذاً فقط الذي يقدر أن يغطس في البركة أولاً يُشفى من كلّ أمراضه.
بين الجموع يوجد إنسانٌ مشلولٌ منذ ثمانٍ وثلاثين سنةً، “هذا رآه يسوعُ مضجعاً”. يشاهده يسوعُ أثناء مروره قرب بركة بيت حسدا فيقترب منه ويقول له: “أتريد أن تبرأ؟”. كم هو سؤالٌ بسيط! وذاك لم يجب فوراً بالقول “طبعاً أريد” ولكنه قال: “ياسيّدُ ليس لي إنسانٌ يلقيني في البركة…”. ليس لديه إنسانٌ يلقيه في البركة لحظة تحريك الماء لكي ينزل فيها أولاً. ويتابع: بل بينما أقترب “ينزل قُدّامي آخرُ”، أي أنّ آخر يسبقُني. أما الربّ يسوع فلا يقول له أيّ شيءٍ آخر سوى “قم، احملْ سريرَك وامشِ”. بهذه الطريقة، البسيطة جداً والمختلفة تماماً عن كلّ ما كان يحدث هناك، يعيدُ له الربُّ صحّتَه وينهضه من سرير الألم والتجربة. ليس هذا فحسب بل ويعطيه قوّة لكي يرفع سريره ويذهب في حال سبيله. دونَ أيّ فعلٍ ولكن فقط بمجرّد القول! بعد ثمانٍ وثلاثين سنةً! بعد مضي عمرٍ كامل!
غالباً ما نبقى في الجزء الثاني، أي في الاندهاش من الأعجوبة، فنحن نعترف بقوة الله وبقدرته على التدخّل بقواه العجائبيّة المفاجئة وأفعاله العظيمة، والتي بحكمةٍ تشفي الجسدَ والروحَ معاً.
ولكن إذا تركنا فكرنا في الفهم السطحيّ المبدئيّ للمقطع الإنجيليّ يتولّد فينا شعورٌ مغاير. إنّ الصور لرهيبةٌ، والمشهد لمثيرٌ للاشمئزاز، والأسئلة لقاسيةٌ جداً، فالملاك، ودونَ تنبيهٍ مسبقٍ وبصورةٍ غير متوقّعة، “ينزل أحياناً” ليحرّك الماء وفقط “الأول” هو من يبرأ. هنا تنتهي العجيبة، هنا تُستنفَد رحمة الله حتى النهاية. هنا تبدأ مأساة الفكر والعقل والمنطق. ألٌم هائلٌ وظلمٌ غير مبرَّر. أسئلةٌ دون أجوبة. فهنا رحمة الله متاحةٌ فقط لشخص واحدٍ وهو “الأول”. كيف يمكن أن يتوافق ذلك مع تفكيرنا البشريّ العقلانيّ؟ كيف يمكن تفسير محبة الله؟ كيف يمكننا تفسير عدالته وتواضعه؟ كيف يمكنه أن يقنعنا بحضوره؟ على الأرجح إنه يستفزّنا بغيابه هذا.
كيف يمكن لأحدٍ أن يؤمن أنّ الله يختار هذه الطريقة لكي يظهر ألوهيّته ويشفي؟ لماذا ينبغي أن نتخيّل المشهد حين ينزل الملاك لكي يحرّك الماء في لحظةٍ غير متوقّعة ودون أيّ استعداد. فجأةً يزحف هؤلاء الناس التعساء من عميانٍ وعرجٍ ومرضى ومعوقين، لا بل ويتنافسون أيٌّ سينزل أولاً لكي يُشفى؟ هل كانت رحمة الله لشخصٍ واحدٍ فقط؟ ما هو معيار تقديم الرحمة؟ أهو الاستعدادُ الجسديّ ومهارة المعاقين وليس الفضيلة! النجاحُ في المنافسة وليس التواضع والجهاد الروحيّ! لماذا للأول وليس للأفضل؟ كلّ هذا يُظهر قلّةَ المحبّة لا العدالة.
علاوةً على ذلك، من هو ملاك الله هذا الذي يمكن أن يحرّك الماء ويشاهد هذا المشهد ومن ثمّ يعود مرتاح الضمير كونه حقّق مشيئة الله؟ في النهاية ما هوالأكثر أهميةً؟ فرح الشفاء لدى شخصٍ واحدٍ أم مأساة ومعاناة الكثيرين؟ هذا الذي نال الشفاء كونه “الأول”، حتى لو كان شفاؤه مكافأةً له على إيمانه وفضيلته، كيف يمكنه أن يفرح وبقيّة إخوته الذين كانوا يعانون معه حتى تلك اللحظة، ليس فقط لم يشفوا، بل أيضاً شاهدوا تمييز الله يشمل شخصاً واحداً لم يكن هو الأفضل أو الأشدّ مرضاً بل الأكثر حظّاً؟ أليس هذا تحدّياً واستفزازاً؟
الغيرة هي من الطبيعة البشريّة، عندما يُشفى قريبُك يُغرقك شعورٌ أنك أضعت الفرصة. لا أعرف كم تكون هذه الغيرة خطيئةً مُعثَّرة، ولكنها بالتأكيد معاناةٌ وعبءٌ يُعذّبان المرء. لماذا يَسمحُ الله بهذا الأمر؟
يعترف المشلول بأنّ “ليس عنده إنسان”. ثمانية وثلاثين عاماً يعيش هذا المشلول على أمل أنه يوماً ما سينزل إلى البركة أولاً بعد تحريك الماء لكي يبرأ. ولكن كيف تتوافق محبّة الله مع طول مدة عجز المشلول؟ لأيّ سببٍ يعيش مشلولاً في شبابه ومعافىً في شيخوخته؟ ولماذا كان على هذا الإنسان أن ينتظر شفاءه ثمانٍ وثلاثين سنةً كاملةً، لا بل وأيضاً بعد عددٍ لا يحصى من محاولات الشفاء الفاشلة؟ لماذا ينبغي أن يكون وجود هذا الإنسان المعذَّب مع مرضى مماثلين له التعزيةَ الوحيدة له؟ ولماذا يكون عزاؤه الوحيد شعورهَ أنّه ليس الوحيد الذي يعاني أو يخسر الشفاء كلّ مرة؟ لماذا يسمح الله بكلّ هذا الألم! في النهاية يبدو أنّ الله يصنع أعجوبةً، وهي فعلاً دون أيّ شكًّ معجزة، ولكن نرى في الواقع، أنّ المشهد كلَّه يخلق شعوراً بالغياب الإلهيّ، وأنّ الشعور بغياب الله يطغى على حدث الأعجوبة حتى أنه يجعلها صعبة الفهم. لا يمكن تبرير هذا الغياب لأيّ سبب. قوة الله ظاهرةٌ ولكن محبته غير مرئيّة. كيف يمكن لهذا الإله الذي صنع الأعجوبة أن يكون هو الله الذي تتحدث عنه بقيّة أقسام الإنجيل؟ لكن أليس هناك أمرٌ لم تلتقطه عدسة الواقع العقلانيّ بل وأكثر من ذلك أليس هذا الأمرُ يصرف انتباه من يراه بشكلٍ مجرّدٍ ويشتّتُ فكره؟ إذا قرأنا كتاب المزامير وبحثنا في الكتب الآبائيّة، سنرى كيف يتمّ التعبير عن ظاهرة الشعور بغياب الله مراتٍ عديدةً على لسان داود النبيّ والقديسين. يقول داود: “لماذا وقفتَ بعيداً عنّي؟” لماذا تجلس بعيداً؟ لماذا لا تعتني بي عندما يجب أن تكون بجانبي في أحزاني واحتياجاتي؟. أشعر أنّي مَنسيٌّ، أشعر أنّي متروك. أتكلّم ولا تأتي إليَّ، أناديك ولا تسمعني، أترجّاك وتبقى بعيداً عنّي. الله غائبٌ عن حياتي، في اللحظة التي أطلبه فيها، في اللحظة التي أحتاجه فيها. “المسيحُ ينام” كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي (في رسالته إلى إفنوميون). أليس الله غائباً عن عالم الاضطراب والصراعات والحروب والظلم والمرض والخطيئة والأهواء؟ أليس الله غائباً حتى عن آلام المسيح وعن صَلْبه وحتى عن دفنه؟ ألم يقلِ الربُّ نفسُه: “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”. كيف يمكن للمالئ الكلّ والحاضر في كلّ مكانٍ أن يكون غائباً؟
هل الله غائبٌ فعلاً؟ وإلى أيّ حدًّ هو غائب؟ أم هناك أمرٌ آخر يحدث؟ ربما وراء هذا التعثّر العقلانيّ تكمنُ عقلانيّةٌ روحيّةٌ دقيقةٌ تجمع محبتَه مع سقوطنا، وقوتَّه مع مرضنا، وألوهيّته مع ضعفنا العقلانيّ، وحكمته مع عجزنا عن فهم سرَّه؟ ماذا تعني الكرازة بالإله المصلوب، مَنْ هو “لليهود عثرةٌ ولليونانيين جهالةٌ، فالمسيح قوة الله وحكمته”. أم أنَّ قبولَ العالم الساقط بتواضعٍ ليس حكمةً فقط بل وقوة إلهيّة أيضاً؟ بالتأكيد لا يمكن الله أن يوجَد مع الموت الذي نعيشه يومياً، ومع الاضمحلال الملحوظ للكرامة البشرية. لا المحبةُ الإلهية تحتمله ولا حتى طهارته تبرَّره. الله هو حياةٌ وحَسْب. وعندما يُظهِرالموتُ سلطتَه، نرى أنّ الله هو القيامة. كلّ هذه التساؤلات التي طرحناها سابقاً هي تساؤلات صحيحة من حيث أنها تصف العالم الذي يسودُهُ الموت والسقوط. السؤال الأكبر هو كيف أنّ الله الذي بِحُسْنٍ صنعَ كلَّ شيءٍ في هذا العالم الإلهيّ، وكما يقول سفر التكوين “حسناً جداً”، قد قَبِلَ تسلّطَ الموت والسقوط بمثابة “سيّد هذا الدهر”. في نهاية المطاف كيف يُفسَّر موتُ السيّد ودفنه الجسديّ؟
حَدَثُ قيامة المسيح يُسلّطُ الضوء على كلّ هذه الأمور. لننتبه إلى المقاطع الإنجيلّية التي تصف حضور الله، وعندها سنتأكّد أن الإنجيليّين عِوضَ أن يستخدموا العبارة “جاء الربّ”، كما لو كان في مكانٍ ما وجاء، فَضَّلوا عبارة “ظهر المسيح أو كشف ذاته”. هذا يعني أنّ السؤال ليس ما إذا كان المسيح، الله، بالفعل حاضراً، الله حاضرٌ ولكنْ متى يظهر أو يكشف نفسه لنا؟ ومتى وكيف نشاهده؟ وكم يشعر به كلّ واحدٍ منّا على الصعيد الفرديّ؟ لو كنّا نحن عند بركة بيت حسدا وشاهَدْنا الآخرَ يُشفى هل كنّا سنقول أنّ هذا ظهورٌ إلهيّ؟ أم كنا سنعترف به فقط عندما نُشفى نحن أنفسَنا؟ إذا شاهدنا المعجزة تحدث مع قريبنا أليس هذا ظهوراً إلهيّاً؟ أم فقط عندما تحدث المعجزة معنا بالذات يكون هذا ظهوراً إلهيّاً؟ هل فقط عندما يظهر في الوقت والطريقة والشروط المناسبة والمواتية لنا يكون حضورُ الله مقنعاً؟ لماذا يكون إرضاُء رغبتنا وليس الحدثُ بحدَّ ذاته
(أي المعجزة) معيارَ الحضور الإلهيّ؟ ما الأجدَرُ بنا؟ ربما تكون أنانيتُنا- بطريقةٍ ما- هي السبب الرئيسيّ لتحريف جوهر الحوادث وحقيقتها العميقة؟ الله ليس غائباً لكي يأتي أو يحضر، ولكنّه حاضرٌ مخفيٌّ، وهذا هو سبب استخدام الإنجيليّين والآباء للفعل “يكشف”، هذا الفعل يعني أنّ الشيء غير الظاهر يُبيَّن لنا. يُكشَف لنا عن طريق الأشخاص الذين يمكنهم أن يشاهدوه. يجب أن يكون هناك توافقٌ بين اللحظة التي يختارها الله لنفسنا وطهارة عيوننا ليكونَ بمقدورنا التعرُّف على الله الظاهر.
المقطع الإنجيليّ لا يتحدّث عن مشلولٍ واحدٍ فقط، ولكنْ يتحدّث وبوضوحٍ عن اللحظة الخاصّة بهذا المشلول، بطريقةٍ مميّزة يمدح لحظةً خاصّةً بكلّ مشلولٍ في هذا العالم، وطبعاً لحظتنا الخاصّة أيضاً. هناك مطاردةٌ بين الإنسان والله. الإله الحقيقيّ ليس ذاك الإله الذي يُستهلك، ذاك الذي يُهان بظهوراتٍ مرتجلةٍ وفق مشيئة الإنسان، إنما هو ذاك الذي يختفي في الزوايا المتواضعة وفي الطرقات السريّة في مسيرة هذه الحياة. الله موجودٌ حقاً. فيبقى لنا أمران: الأوّل أن نصبر الوقت الكافي، والثاني أن نجاهد لنطهّر أعيننا. فكما حان وقتُ المشلول سيحين وقتُنا. قد يكون بعد ثمانٍ وثلاثين سنةً، وقد يكون غداً أو بعد خمس دقائق أو قبل أن نغلق أعيننا في هذا العالم، ولكنْ يوجد دائماً لحظةٌ من الله للجميع. وعندئذٍ فإنّ الإعاقة المزمنة والمترافقة مع معجزة شفاءٍ ستتحوّل إلى بَرَكةٍ أكثر من الصحة والعافية التي تجهل خبرةَ الحضور الإلهيّ.
كانت الكنيسة تحيا الظهورَ الإلهيّ دائماً، ولم تكن تذكره كذريعةٍ دبلوماسيّة. الظهور الإلهيّ في حياتنا سرّيٌّ وروحانيّ. العالم الذي نعيشه عالٌم ساقط، وطبيعته تشبه طبيعة الموت. وإنْ لم نُمت اليوم سنموت غداً. ولكن إذا أقامنا المسيحُ اليومَ كما أقام لعازر فبعد مدّةٍ قصيرةٍ مِنَ الزمن سنرحل من هذا العالم. وإذا لم نرحل نتيجة مرضٍ ما أو حادث سيارةٍ فسنرحل لسببٍ آخر، بطريقةٍ ما سنرحل. إنّما يحضر الله في حياتنا ليعطينا الشعور بالخلاص، لا ليعطينا الصحّة أو القوّة أو الحياة التي لا نهاية لها في هذا العالم، بل الشوق إلى الخلاص والرغبة في الخلود والأمل في الحياة الأبدية. وفي نهاية المطاف فالعالم ليس هو هذا الذي نشاهده الآن، بل هناك عالٌم آخر مختلفٌ عن هذا العالم علينا أن نستشفّه، وعندئذ سنمجّد الله لأنه يهبنا بركاتِه الغنيّة، لا لنكون في صحّةٍ تامّة- قد نخسرها يوماً ما- وليس لننجو مّما قد يهدّد حياتنا، إذْ إنّ نهايتها آتية، إنما لنعيش بهجة خلاصنا، وهذا يعني إمكانيّة أنْ نصبح نحن أيضاً مشاركي ملكوت الله الأبديّ فنعاين الله ونرى خلاصنا وجهاً لوجه. تفسيُر أعجوبة شفاء مشلول بركة بيت حسدا له تفاصيل أخرى ومن نوعٍ آخر.
تكمن عظمةُ الأعجوبة في أنّ عملَ الله لا ينفذّهُ ملاكٌ، إنما الله نفسُه هو من يجترح الأعجوبة بواسطة الربّ يسوع المتجسّد. هو نفسُه يشفي المشلول. يقترب هو من المشلول وفي هذه العجيبة لا حاجة إلى الانتباه الشديد لنلحظ نزول الملاك وتحريك المياه حتى يَدخل المشلول فيها أولاً. هنا يتركّز انتباهُنا على المسيح: “فشاهَدَهُ يسوع”. شاهدَ يسوعُ المشلولَ قبل أن يدرك المشلول أنّ يسوع قد رآه، وعندما ذهب المشلول بعد شفائه إلى المعبد استفزّه اليهودُ هناك لكنه أقرّ أنّه “لم يكن يعلم من هو”، فهو لم يكن يعرف من الذي شفاه. عندئذ يقول الإنجيليّ أنّ الربّ حضر، اقترب يسوع منه وأظهر له نفسه. فعاد إلى اليهود واعترف لهم أنّ “يسوع المسيح هو الذي شفاه”.
ثّمة نقطةٌ أخرى تثير الاهتمام، فالمشلول لم يحتجْ أحداً لدَفْعه ولا آخر لِسَحْبه، ولكن الربّ يشفيه بكلمةٍ، بسؤالٍ بسيطٍ إجابتُه بديهيّة، يسأله فيما إذا كان يريد أن يُشفى وهو- ياللغرابة- لا يجيب “أريد”، ولكن يرتكب سلسلةً من الأخطاء ويجيب: “يا سيَدُ ليس لي إنسان”. أتى إلى البركة ليُشفى وهو مصابٌ بخيبة أملٍ من الملاك، ومن الواضح أنه لا أمل لديه في الشفاء الذي يمنحه الله. أمله الوحيد كان أن يجد شخصاً لكي يدفعه، شخصاً “لكي، عندما يُحرّك الماء، يضعه في البركة”.
الخطأ الأوّل أنّه لم يُجِب كما يشعر “نعم يا سيّد أريد”. ولكنّه أعطى تفسيرات. والخطأ الثاني أنّه ذهب إلى مكان العلاج وكان ينتظر أعجوبةً دون أن يترجّى الله. فمن الواضح أنّه لم يكن يريد الشفاء من الله، وربما لم يؤمنْ بهذا الشفاء.
والخطأ الثالث أنّه أظهرحبّه لذاته إذ يقول “بينما أقتربُ، آخَرُ ينزل قبلي”، وبينما أنا أقترب للأسف شخصٌ آخر يسبقني وهو يُشفى. ربّما حُبُّه لذاته مبرّرٌ، وهو الحبّ الطبيعيّ للذات، بأيّ حالٍ من الأحوال هو حبٌّ للذات وليس ترفّعاً. أنا أريد أن أُشفى، أهتمّ لنفسي فَحَسْب. وللأسف يسبقني الآخرون وهم يشفون وليس أنا. بهذا الشكل يُترجَم قول المشلول.
يتوقّع البعض أن يؤنَّب المسيحُ المشلولَ على كلّ ما سبق ولكنَّ المسيحَ لا يفعل هذا. ودون أيّ تعليق، ودون أن يحاول إيقاظه من غفوته، ولكن ببساطةٍ يأمره بأنْ ينهض ويحمل سريره ويمشي ثمّ يتركه يغادر.
يشفي الربُّ المشلولَ دون أنْ يترك أثراً لهويّته، دون أنْ يربكه باسمه العظيم. ولذلك بقي المسيح مجهولاً بالنسبة للمشلول الذي نال الشفاء. لم يوقعه الربُّ في الاضطراب بقوله ونُصْحه له، ولم يقلقه بِحِثّه على تغيير حياته، وهناك أيضاً شيءٌ آخر فالربُّ لم يشفِ نصفَ المشلول ويترك نصفه الآخر لكي لا يخلق عنده حالةً لا تُفسَّر.
لم يشفِ الجسدَ فقط ولكن بعد قليلٍ يراه الربُّ في الهيكل ويشفي النفس أيضاً، إذ يقول له “لا تخطئ أيضاً”، من الآن فصاعداً عِشْ دون خطيئةٍ “لئلا يكون لك أشرُّ”، لكي لا يحدث لك أمرٌ أسوأ، ضمنيّاً يقصد أنّ مصدر الشلل وبؤسه كان حياتَه في الخطيئة. لم يكنْ الربُّ على عجلٍ لكي يُتمّ الشفاءين معاً وفي المكان نفسه ولكن في البداية يشفي جسدَه ومن ثمّ يشفي نفسَه، في البداية في مكان بؤسه ثمّ لاحقاً في مكان عبادته في الهيكل. لا يذكّرنا الإنجيل بأعجوبةٍ ما، لكنَّه يدفعنا جميعنا لليقظة. كلُّنا مصابون بشللٍ وعمىً روحيًّ وإعاقةٍ وعَرَجٍ وجفافٍ ووَهْنٍ في أرجلنا وضعْفٍ في أيدينا، كلُّنا مخدوعون بتفكيرنا العقلانيّ حول بِركةٍ، بِركةٍ من الدموع، كنايةً عن الآمال الضائعة في هذه الحياة. تحاول الكنيسةُ إعادة توجيهَ قلوبنا من عقلية العهد القديم في محدودية الرحمة الإلهية إلى ملئ وعظمة محبّة الله المتجسّد في العهد الجديد.
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
التنضيد الإلكتروني: إيفا نعمة حيداري ـ قنشرين
امين
إن هذه البركة قدمت حلا جزئيا ومؤقتا للمرضى على أنواعهم، أما الرب يسوع فبرحمته الكثيرة قدم لنا ذبيحة نفسه كحل جذري ودائم لخطايانا التي هي مصدر كل شقاء وألم ووجع، وبالتالي فتح الرب باب الخلاص لكل إنسان على وجه البسيطة. عند الرب لا يوجد حاجة للانتظار والعيش في وجعنا وخطيتنا، بل كما يقول في رو 10: 8: “الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التي نكرز بها”، ويؤكد بولس الرسول في 2 كو 6: 2 قائلا: “هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن يوم خلاص”.