“لي شهوةٌ أن أنطلق”
إنسانٌ متألمٌ جداً، لكَّنه لطيفٌ وفرحٌ فوق العادة. “سلام الله الذي يفوق كلّ عقل” [efn_note]في ٤: ٧[/efn_note] كان خاصته. عندما كان طفلاً صغيراً في الصفوف الأخيرة من المرحلة الأبتدائية، اختطفت جماعة من المتمرّدين أمَّه وأخته أمام عينيه، وبعد وقتٍ قليلٍ سمعَ صوت إطلاق النار. لم يشاهدهما مرَّةٌ أخرى لكنَّه لم ينسَ أبداً صورة الفراق ولا ملامح وجهيهما في تلك اللحظة. كان الذنب ذنبَ والده، الذي اختفى هو أيضاً، وأخبر عن والدته وأخته. إنَّ نفس هذا الطفل كانت مجروحة حتى الصميم.
وضعوه في مخيم للأطفال، وهناك تعلَّم مهنة تلميع الأحذية. صادف أنَّ ضابطاً في الجيش اليونانّي الإحتياطيّ ذهب ليدهن حذاءه في أحد شوارع مدينة تسالونيك. تبادلا الحديث وأصبحا صديقين. كان ذاك يحدّثه عن المحبَّة، ويقدمها له عملياً، ويعطيه أملاً وتعزيةً.
قادَهُ إلى الكنيسة وفتح أمامه كلَّ الآفاق الروحيَّة. أصبح راهباً في أحد الأديرة المعروفة مع نخبةٍ من الإخوة الرهبان، ثمَّ شمَّاساً وخادماً للجميع. كان يجعل نفسه الأخير بأختياره، ويفرح ويتمتّع بتقدّم الآخرين كأنه تقدمه الشخصيّ. لقد وجد المكان المناسب له، وهناك اكتشف نفسه، والتقى بالله، وأصبح اسمه الجديد كيرلّس.
كان صوتُه عذباً وذاكرته قويَّة جداً، وكان تسبيح الله في فمه كلَّ حين. يعرف تقريباً الكتاب المقدس عن ظهر قلب. لقد أصبح الدير جامعةً بالنسبة له. كان يرتّلُ من فيض قلبه اللطيف لا بحبالهِ الصوتيَّة وشفتيه. يَسُرُّكَ سماعه ومشاهدته ، فهو من القليلين الذين كرَّموا صورة الله، وأشعَّت منهم صورةُ الله ومثاله واضحةً وسريَّة. يمكنك أن تُدرِكَ أنّ الأب كيرلّس أكثرُ بكثيرٍ مما يبدو، فهو كطفلٍ صغيرٍ عمرهُ ستُّون سنةً. ملاكٌ أرضيُّ بهيئةٍ بشرية.
ملكوت الله هو الموضوع الأحبُّ إلى قلبه، ورغبتُه الجليَّة هي أن يُتِمَّ الأمور الواجب فعلها في هذه الحياة ليعيش ملء الحياة الأخرى. الاشتراك في الغبطة الأبديَّة، وفي المعاينة الإلهيّة الدائمة، عيش الوعود الإلهَّية، الاشتراك في اليوم االثامن ـ يوم الرب ـ الذي لا يُظلم، وسماع ” كلماتٍ لايُنطق بها ولا يسوغ للإنسان ان يتكلَّم بها”[efn_note] ٢كو ٤:١٢[/efn_note]، العيش مع الملائكة، اكتشاف القدّيسين إظهار سرّ أمّ الإله، إبطال فعل الفساد المؤقت، كلُّ هذه الأمور كانت اهتمامه الرئيسيّ. كلُّ ماكان يقوله، كان التزاماً منه بان يشير إليه كلَّ يومٍ ” كلامكم كلّ حين بنعمةٍ مُصلحاً بمِلْحٍ”[efn_note] كول 6:4[/efn_note] كلامهُ ماءُ حياةٍ لا موت.
نال إعجاب جميع الإخوة في الدير. كان يتوق إلى الرحيل من هذا العالم، ولم يكن ليُصرّح بذلك. يشعرُ أنَّه” مغتربٌ ونزيلٌ” في العالم، بل غريبٌ عنه أيضاً، وشوقه للموت واضحٌ، فقد كانت علاقته بالموت ودّيةً، ومعتاداً على فكرة الموت. لم يكن قلُبه متمسكاً بهذا العالم، ولهذا السبب مظهره الخارجيُّ بسيطٌ جداً.
كان يزورني في الأنتوش الذي كنت أخدم فيه دون أن أتوقَّع زيارته، ولكن ببركة رئيس الدير. كان يجلب معه بركاتٍ من زبيبٍ مجففٍ ولوزٍ وسمسم وشوكولا وكتاباً ما. لم يأتِ أبداً فارغ اليدين. حالما يأخذ البركة، كان يصلّي قطعةً للعيد أو القدّيس المعيَّد له في ذلك اليوم، وفمه الممجّد ينطق بالروايات الرائعة من حياة الشيوخ الذين كان قد تعرَّف إليهم، وتفاسير المزامير التي صادف وفسرها أو سمعها وتركت تأثيراً في داخله، وأفكاراً آبائيةً وملاحظاتٍ عليها، ومواقف مؤثرة من حياة القدّيسين، وشرحاً عميقاً لآيات من الكتاب المقدس، وينهي دائماً حديثه بالإشارة إلى الموضوع الأحب إلى قلبه ألا وهو ملكوت الله، وكيف سيكون في الفردوس، نبع لاهوتٍ حيّ وعمليّ. كلّ شيءٍ يعيشه بشوقٍ عظيمٍ وتواضعٍ عميق.
فجأةٌ رقد بالربّ رئيسُ الدير الشيخ ليونديوس. رحل من غرفة العناية المشدَّدة قبل ان يُقدّم له أيُّ شخصٍ المساعدة الممكنة، أو يشعر به أيُّ شخصٍ في المشفى ولا حتى الممرّضون. لم يكن أحدٌ يتصوَّر أنَّ الامور ستسير هكذا. كان إنساناً عظيماً في الخفاء. لقد أخذ معه كلَّ البركة التي أعطاها الله له وترك، لكلّ الذين تعرَّفوا إليه، ذكريات شخصٍ مجهولٍ لكنّه قدّيسٌ عظيمٌ، ترك الشعور بلّمسةٍ مقدَّسةٍ في هذا العالم.
لا أحد يعرف كيف كان يعيش هذا الراهب، ولا حتى الشيخ كيرلّس والذي كان يحبه كثيراً. وحتى اليوم لايزال مجهولاً، وسراً لا يمكن اقتفاء أثره، إنه سرٌّ بالفعل، وإخلاءٌ مطلقٌ للذات وملء نعمة. خلال مراسم الجنازة، بدا الشيخ كيرلّس منسحقاً وهو جالسٌ في إحدى الزوايا، لم يرفع رأسه مطلقاً. إنّي أفهمه فهو الآن وللمرة الثانية يشعر أنه يتيماً.
فجأةً وبصورةٍ غير متوقعةٍ اقتربْتُ منه في نهاية الخدمة، معتبراً أنَّه من الواجب عليَّ أن أقول كلماتٍ معزيّة.
ـ شاهدتك منحني الرأس خلال خدمة الجنازة. يتيمٌ من جديد، لا بل الآن أكثر من السابق.
ـ ليس ذلك بالظبط يا أبتِ، فالآن لدينا في السماء شفيعٌ من الدرجة الأولى، مجاهدٌ حقيقيّ.
ـ لكنَّني أدرك الفراغ الذي تَرَكه، تابعتُ، ما الذي يمكننا فعلهُ؟ سوف نشتاق إليه. كنت أنظر إليك طيلة خدمة الجنازة والأفكار والقلق يملآن رأسك.
ـ ليس هناك فراغٌ، غيابُ الله فقط يترك فراغاً لا غياب للناس. ” امنحني الوطن المحبوب واجعلني مستوطناً الفردوس أيضاً” (قالها مرتِّلاً بصوتٍ خافت)، فإما أن نفرح لكلّ من يرث الوطن الذي نشتاق إليه والفردوس وملكوت الله، أو أنها جميعاً أمورٌ مبالغٌ بها وأقوال فارغةٌ، وعند ذاك فالدموع هي لمأساتنا.
ـ لا يمكنك أن تتخيَّل كم أحسد الأب ليونديوس. أفكّر بالاستقبال الذي حظي به من قبل الطغمات السماويّة، وبما يتمتَّع به الآن ” وجهاً لوجهٍ”، ونفسي تبتهج للمجد الذي لاقاه. تخيَّل أن يكون الأب ليونديوس الآن موجوداً بين الملائكة، وبين أبرارٍ وشهداء دمٍ ممجَّدين، بالقرب من الرسول بولس، مع يوحنا المعمدان، مع القدّيس باسيليوس الكبير، مع يوحنا الذهبيّ الفم، مع العذراء مريم، وفي حضرة الحمل المذبوح، يا إلهي! ونحن هنا نندب.
اليوم وبما أنه مواطنٌ جديدٌ في السماوات، رجوتُهُ من أعماق قلبي أن يفتح لنا الطريق إلى هناك. أعتقد أنّ الله سيصغي إليه، ومن المؤكد أنَّ لديه الدالة على طلب ذلك من الله.
بعد أسبوع من جنازة الأب ليونديوس أصيب الأب كيرلّس بمرض اليرقان. أدخلوه المشفى، وبدؤوا بإجراء الفحوصات الطبيَّة، فوجدوا سرطاناً بحالةٍ متقدمةٍ في الكبد، ومنتشراً على نطاقٍ واسع. كان الخبر صاعقاً وغير متوقع. قرّر الطبيب الجراح، وهو صديقٌ له ولنا، أن يجري عمليةً جراحيةً فوراً، لكن جسمه مملوءٌ بالكامل. لم يستطع أن يصدّق ما يشاهد بعينيه، وبدأ العملية الجراحية لكنه توقف.
ـ سنخسره يا أبتِ، قال لي الطبيب. إنَّ حالته أسوأ ما يمكن، ولن يستطيع أن يصمد اكثر من شهرين. سنعالجه كيميائياً لكي نقول إننا قدَّمنا له ما يساعده، وربَّما يصمد شهراً ثالثاً. ساد في الدير قلقٌ عظيمٌ، ولم يستطع أحدٌ أن يصدِّق أنَّ رئيس الدير ليونديوس يرحل إلى السماء ليجمع إليه بقية آباء الدير هناك. ليت الله اختار شخصاً آخر، لماذا الأب كيرلّس. أما هو فكان على يقينٍ بكل شيءٍ، لذا كان وجهه يلمع من الفرح.
ـ لم أكن أنتظر هديةً كهذه. كنتُ قد اتَّفقتُ مع الأب ليونديوس على أن من يرحل أولاً يطلب من الله من أجل الآخر. لا بدَّ أنه وجد دالَّةً عند الربّ، ولهذا عمل معجزته. رأيتم، ” اطلبوا يستجاب لكم”. يمكنكم أن تطلبوا أنتم أيضاً.
ـ سنطلب نحن ألا ترحل أنت، يقول الأب يرونديوس. ترى أين ستذهب صلواتك.
ـ أنا مصابٌ بسرطان المعدة، والآن مستعدٌ للإقلاع إلى السماء كالطائرة التي تقف في ممرّ الإقلاع وقد أضاءت كلّ مصابيحها استعداداً للأنطلاق. لا شيء يربطني بعد بالأرض.
ـ أكاد أختنق، تمتم الأب يرونديوس، لا يستطيع أحدٌ إقناعه بأن يوقف هذه الصلوات. ليس ذلك ممكناً. فنحن نريده هنا معنا على الأرض، وعلينا أن نصلِّي جميعاً من أجل ألا يستجيب الله لصلواته. لا يستطيع أن يفعل بنا ما يريد، فالسماء تكتظُّ بالقدّيسين، وماذا سنفعل نحن إذا غادرونا واحداً فواحداً؟
أتّصَلوا بي لكي أصلّي أنا أيضاً. كم فرحت بهؤلاء الآباء، روحٌ رائعةٌ! إيمانٌ حرٌ! حالةٌ سماويةٌ مختلفةٌ عن العالم! زُرْتُه في المشفى.
ـ أراك على مايرام يا أبتِ، قلت له.
ـ انتظر لبعض الوقت وسأصبح بحالةٍ أفضل بكثير. يكفيني ان يكفَّ عن الصلاة لأجلي الأب يورنديوس، فقد قرَّر أن يبقيني هنا في هذه الحياة، والمشكلة هي أنه يعرف كيف يصلِّي جيِّداً وعادةً يستجيب الله صلواته.
لقد حثَّ كلَّ الأصدقاء على الصلاة أيضاً لكنيِّ أعتقد أنني سأربح في النهاية. ومن جهةٍ أخرىن ما يحيِّرني هو أنه يصلي للآخرين أما أنا فأصلي من أجل نفسي. يقول الأب تريفُن إن مفعول الصلاة من أجل الآخرين قويٌ جداً. وأمرٌ آخر، كيف يمكن أن يربح شخصٌ خاطئ مثل الأب كيرلّس جميع هؤلاء؟ فهم جميعاً أبرار. ألا تُصلِّي أنت لكي ننتهي من هذا الموضوع؟ من فضلك، عندما سيخسرون اللعبة جميعاً أودُّ أن تكون بجانبي لكي تقرأ لي صلاة النزاع الأخير.
عندما تأتي إليَّ في المرة القادمة أحضِر معك كتاب الإفخولوجي لنختبر ذلك للمرة الأولى. أنا الآن سأغلق عينيَّ، وأصلِّب يديَّ على صدري، فيما تبدأ بقراءة خدمة الجنازة. ” وأيضاً نطلب من أجل راحة نفس عبد الله كيرلّس الراهب الخاطئ، ومن أجل غفران خطاياه الطوعيَّة والكرهيَّة”. كان يقرأ ذلك وهو يفيض فرحاً وتمجيداً للربّ.
انقضى شهران، أربع سنواتٍ كاملةٌ، ولم يكن أحدٌ قادراً على أن يصدِّق أنَّ الأب كيرلّس دخل في الطائرة التي ستُقْلعُ لكنَّ الرحلة قد أُلغيت. كان الأب يرونديوس هو السبب لكلِّ مايجري، ففي النهاية استجاب الله لصلواته وليس للأب كيرلّس لم يستسلم.
ـ من الممكن أن تكون محبَّة الأب يروندوس قد ربحت في المرحلة الأولى، ولكن هناك أيضاً الأب ليونديوس، وهو في السماء. كنت قد طلبت منه رجاءً، عندما لم يكن أحدٌ يتوقع أنه سيرحل من بيننا. سيستمع الله صلاته في وقتٍ ما، قالها مبتسماً.
طلب منِّي أن نلتقي في برامون عيد الميلاد، وكانت نفسه تطير مثل الملائكة، وفمه يمجِّد الله دون انقطاع، ووجهه يلمع، أما قلبه فكان يفيض نعماً لا يمكن وصفها. بَدَتْ صحته على ما يرام.
ـ أعتقد أننا نقترب من الساعة الحاسمة. أشعر أنَّ العدَّ التنازليَّ سيبدأ خلال وقت قصير. ستتمُ المغادرة بسرعةٍ هائلةٍ هذه المرَّة، مرَّةً واحدةً دون رجعةٍ، حتى لا يتمكن بعض الآباء مثل الأب يرونديس من تخريب المخطَّط.
إنَّ بطاقتي هذه المرة مضمونةٌ، وأرجوك ألا تُسبِّبَلي أيَّ تعطيلٍ لمخطَّطي بصلاتك، أريدك حليفاً لي، ماذا نفعل في هذا العالم طالما هناك عالمٌ آخر؟ باحَ لي بسرِّه بلطفٍ بالغ. بعد العيد مباشرة ساءت صحة الأب كيرلّس، وشعر بدوارٍ والآمٍ حادةً، فأدخلوه المشفى على الفور. تبيَّن أنَّ مسيرة صحَّته الجسديَّة فتحت الطريق أمام مسيرة روحه القادمة. لقد انتقل المرض إلى كلَّ أعضاء جسده. وصلَتهُ الأنباء عن مسيرة صحّته من المحبَّبين إلى قلبه. خصومه، الذين زاروه محتجِّين. قَبِلَ الخبر بابتسامةٍ لطيفةٍ، وَرَسَم علامة الصليب وقال من أعماق قلبه: ” المجد لك يا إلهنا المجد لك“، وكأنه وجدَ أرض الميعاد بعد شُرُودٍ طال أربعين سنةً في الصحراء، أو أنه المشلول في الكتاب المقدَّس الذي مشى بعد ثمانيةٍ وثلاثين عاماً.
منذ تلك اللحظة توقَّف عن المزاح وبدأ التحضير على قدَمٍ وساقٍ، فقد آن الأوان للسفر، وعليه أن يرتِّب أمور سفره قدر المستطاع. فهو يصلي دون انقطاعٍ أمام الله، ومحبته لله وإيمانه به في أعلى درجاتهما. لقد كانت حياة الأب كيرلّس قصيرةً في هذا العالم، لكنه كان يتهيأ لحياة طويلة في العالم الآخر، العالم الحقيقيّ والأبديّ.
طلب إليَّ أن آتي إليه وأُحضِرَ معي كتاب الإفخولوجي وأتِّممَ الاتفاقيَّة التي بيننا، وهي أن أُصلي له صلاة النزاع الأخير. كان يوم الأربعاء، وإذا لم أكن على خطأ، السابع من كانون الثاني. أخذت معي صليباً فضّياً بسيطاً وفي داخله قطعةٌ من الصليب المقدِّس، مُقَدَّماً لدير سيمونس بيتراس في الجبل المقدَّس، كان للمتروبوليت ” المتواضع” أرسانيوس منذ عام 1692 كما كُتِبَ عليه من الخلف. كنتُ أسجد للصليب منذ عشر سنواتٍ، ونادراً ماكانت تفوحُ منه رائحة. تفوح فقط في يوم عيد رفع الصليب وفي أحد السجود للصليب المقدّس، بشكل خفيف. أخذتُه معي للتبرُّك. أخرجتُهُ من عُلبِتِه وقَّبلتُه. لم تَفح منه أيةُ رائحة. وضعتهُ في كيسٍ مخمليِّ وذهبت إلى المشفى.
وصلتُ حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحاً. وقفت بجانب سريره. انتظرنا مجيء أخته أيضاً. قال أنه سيرحل يوم عيدٍ جامعٍ للقدّيس يوحنا المعمدان. السماوات مفتوحة، ويُكرَّم القدِّيس يوحنا المعمدان أعظم تكريمٍ، ظهور الثالوث الأقدس، والأب كيرلّس مستعدٌّ كلياً، إنِّه أفضل وقتٍ للأنطلاق إلى العالم الآخر.
انقطع اتصاله بالعالم الخارجيّ، عالم الأحاسيس، ومن الواضح أنَّه كان غارقاً في الصلاة، لكنَّه يعاني من صعوبةٍ واضحةٍ في التنفُس. كان يرِّددُ بين الحين والآخر: ” تعال أيُّها الربُّ يسوع“. أخرجتُ الصليب المقدّس لكي يُقبِّلَه ويسجد له. كانت حاضرة مديرةُ المشفى والممرِّضة، واثنان من آباء الدير. رسمَ إشارة الصليب وسجد له، ثم سجدنا جميعاً للصليب المقدَّس.
ـ كيف تجري الأمور يا أبتِ؟ كيف حالك؟ هل هناك صعوبةٌ؟ هل نستطيع أن نقوم بشيء ما لمساعدتك؟
ـ أنا سعيدٌ جداً! لستُ مهتمَّاً بأيِّ شيءٍ آخر، أنا راحلٌ من هذا العالم، أنتظر مجيء أختي ماريا وبعد ذلك سأنطلق فوراً. لستُ حزيناً عليكم لأننا لن ننفصل عن بعضنا، ولكن ببساطةٍ سنرحل واحداً فواحداً إلى ” منزل الآب، حيث لا وجعٌ ولا حزنٌ ولا تنهُّدٌ بل حياةٌ لا تفنى”… واختفى صوته.
ـ متى سأبدأ بالصلاة؟ هل تريد أن أقول تبارك الله؟ سألْتُه.
ـ لا، ليسَ بعد. بعدَ قليلٍ، سأخبرك…
ساد الصمتُ لبعض الوقت. أتى اثنان من آباء الدير. لم يكن الأب كيرلّس يدرك ما يجري حوله. اقترب منه أحد الآباء، الأب إفستاثيوس، وقال بصوتٍ جهير في أذنه: ” المجدُ لله على كلّ شيءٍ. ولن نتوقف عن طلبه في كلّ آن“.
إنَّ مثل هذه اللحظات أمرٌ فريدٌ من نوعه. فهو يعيش الأبديَّة لكنَّه موجودٌ على الأرض، ويتحدّث اللغتين بمهارة. إنَّها اللحظات الأخيرة هنا.
ساد الصمت حوله، فماذا يمكنك أن تقول في لحظةٍ كهذه، وبجانب إنسانٍ كهذا؟ نقف قربَهُ كلُّنا بوقار. قلّةٌ من البشر وجمعٌ من الملائكة. كانت الساعة الثانية عشر ظهراً. تضبطُ البداية ساعتُه الخاصَّة، ساعةٌ دون عقارب، دون أرقام، دون زمن ودون نهاية.
انقطع اتصال الأب كيرلّس بالعالم الخارجيّ، فهو يتنفَّس بصعوبةٍ. منظر وجهه يبدو ملائكياً، ولم يتفوَّه بكلمةٍ منذ ساعةٍ ونصف تقريباً. بقى له أن يلفظ نفسه الأخير، هذا مايبدو…
ـ هل تريد أن أبدأ بقراءة الصلاة؟ سألته. هل تريد أن أضع البطرشيل وأبدأ بقراءة مزامير صلاة النزاع الأخير؟ فهي خدمةٌ رائعةٌ لكنَّها مخيفةٌ. أما هو فحرَّك شفتيه ببطءٍ، وتابَعَ كلمات الصلاة محاولاً أن يرسم علامة الصليب في اللحظة المناسبة. طلب أن أقرأ الخدمة بالكامل، وعندما بدأتُ بقراءة قانون الخدمة، كان قد هدأ.
قرأتُ كامل الخدمة، وقرأت صلاة الختم. أعطيتُه البطرشيل لكي يُقبِّله، فقبَّلَ يدي بخشوعٍ بالغٍ، وَرغم غيبوبته فقد قّبَلَ يدي ككاهن. أما أنا فشعرتُ أنَّي لمستُ شخصاً طاهراً قدّيساً. انحنيتُ وقبَّلتُه، إنَّه أيقونةٌ حيَّةٌ! إنسانٌ ” ليس من هذا العالم”.
حرَّك شفتيه وكأنَّه يريدُ أن يقول شيئاً. سألتُه إن كان يريد أن يسجد للصليب المقدَّس. بالفعل، هزّ رأسه مؤكداً ذلك.
وضعتُ الصليب المقدِّس في العلبة بعد أن قبَّلتُه أولاً. تفوح منه رائحةٌ رائعةٌ وقويةٌ. لم يتفوَّه بكلمة. قدَّمتُ له الصليب المقدَّس ليسجد له، ففتح عينيه ورسم إشارة الصليب على صدره، ثم ذرفَ دمعةٌ بعد تقبيله الصليب المقدَّس وغرق في صمتٍ عميق. بعد قليلٍ أطلق نَفَسَهُ الأخير وعبر إلى عالم الأبديّة والغبطة، إلى أرض الودعاء.
سجد جميع الحاضرين بخشوع لقطعة الصليب المقدَّس متذوقين نعمة الصليب المقدّس وبركة هذا الراهب المتواضع كيرلّس. من قبل لم يَشُمّ أحدٌ منَّا أيَّ رائحةٍ، أما الآن فجميعنا دون استثناءٍ، شعرنا بها بقوَّة. لقد أظهر الله استحسانه، واستراح هذا الإنسان بكلّ ما للكلمةِ من معنى.
خاتمة
يتبعُ فرح الولادة سلسلةٌ من التجارب والمحن، وختام ذلك بالنسبة للجميع دون استثناء هو الموت. تلك حقيقةٌ لا جدل فيها. للموتِ هيئةٌ مفجعةٌ، ولونٌ أسودٌ، حضورٌ وأفكارٌ رهيبة.
إنَّ خبرة الموت معذَّبةٌ، وكذلك كلٌ من الفراق والفراغ الذي يتركه أيضاّ، و الأحلام غير المكتملة، والذكريات الحيَّة، والخوف من النهاية، والشعور بأننا يمكن أن ننسى فقيدنا، و وخز الضمير، و أفكارٌ مثل ” لو قمنا بذلك”، ” ربَّما”… جميعها تترك داخلنا ألماً عميقاً.
كلُّ هذه الأمور تولِّد ألماً طبيعياً في النفس البشرية. والموت حدثٌ جامع، فنحنُ كلُنا ودون استثناء على الإطلاق، وحتى الكنيسة ترتِّلُ في خدمة الجنازة: ” أنوحُ وأنتحب متى تفطَّنتُ بالموت”، وتراتيل الجمعة العظيمة وتقاريظها تذكر رهبة الموت.
رغم ذلك، تعطي الكنيسة بُعْداً آخر للموت، فتُحدِّثُنا عن الغبطة، وراحة المنتَقِل، وملكوت الله، وعن تلك الحالة ” حيث لا وجعٌ ولا حزنٌ ولا تنهُّدٌ، بل حياةٌ أبديَّةٌ لا تفنى “. تُحدِّثنا عن حياةٍ وقيامةٍ مخبَّأتين خلف الحزن والمشاكل وفظاعة الموت، حتى إنها تطلق عليه تسمية “رقاد”. وكلُ هذه الأمور لا تُقدَّمُ على أنها تعليمٌ مُعَزِّ، أو مساندةٌ، أو وَهْمٌ، أو كخطوةٍ ضروريةٍ للأبتعاد عن الواقع والحقيقة، أو أحتمال، بل كخطوةٍ وحيدةٍ عظيمةٍ، وحقيقةٍ مركزيةٍ، كخبرة الكنيسة عبر الزمن والدليل الأكيد على نعمة القدّيسين.
هذا الإيمان بأكمله يستند إلى حدثٍ عظيمٍ هو قيامة المسيح، ومما لا شكَّ فيه أنَّ أعظم عيدٍ في الكنيسة الأرثوذكسية هو عيد الفصح المجيد، فهو تلخيصٌ لكلّ اللاهوت، واختبارٌ لسرِّ الموت والحياة الحقيقيّة. هو عيدٌ يجمع بين دفن السيد وقبره الفارغ الذي قام منه، وحالما يخرج الصليب الكريم في يوم الخميس العظيم، نرتِّلُ “ ياربُّ إنَّ صليبك حياةٌ وقيامةٌ لشعبك“، وأيضاً عندما نقرأ ” إذ قد رأينا قيامة المسيح” نتذكَّر مرَّةً أخرى الصليب، ” لصليبك أيُّها المسيح نسجد ولقيامتك المقدَّسة نسبِّح ونمجّد”.
إنَّ كلمة قيامة محبوبةٌ في الحياة واللاهوت الأرثوذكسيَّين، فهي تتحدَّث عن طريقةٍ فريدة للحياة وعن الموت في الوقت نفسه، ولا تُميِّزُ بينهما. تعرضُ الحياة أكثر من الموت وتوضيح حقيقة الموت من خلال الحياة الأبديَّة التي لاتنقطع.
ضمن كلمات نشيد القيامة ” المسيح قام” الذي هو أنشودة الحياة، هناك أربع كلماتٍ لها علاقةٌ بالموت: ” الأموات”، ” الموت”، ” وطئ الموت”، ” القبور”.
نرتِّل في قانون القيامة ” نعيِّد لإماتة الموت”، فالقيامة تحوِّلُ الصليبَ وموتَ المسيح إلى رمز انتصارٍ وحياةٍ، وليس انتصاراً حصرياً لحياته فقط، بل أنتصاراً لحياتنا أيضاً. لم يَقُمِ المسيحُ من بين الأموات ليجربنا على الإيمان بألوهيته، بل ليهبنا حياةً أبديَّةً.
هذا هو السبب الذي يجعل الإيمان بألوهية المسيح وقيامته هو التفسير الأفضل للألم، والأداة الأفضل لمواجهة الموت، والوسيلة الأفضل للتعزية والمساندة.
في النهاية، إنَّ التغيير والتبديل الذي تتحدَّث عنه الكنيسة هو بالطبع في الحياة التي تشير إليها، وهي التطويبات، العظة على الجبل، تعليم المحبّة، منطق الصليب. هذه كلّها يتَّخذها الإنسان سلاحاً ليكتسب إيماناً ” مختلفاً”، وحياةً” جديدةً” وقيامةً أبديَّةً ” مغبوطة”.
في الكنيسة يُمجَّدُ المصلوبُ، يُؤهَّل الأخير، يعطي كلاماً وحكمة ذاك الذي لا يعرف ما سيقول للدفاع عن اسم الربّ، يقوم الميت. تنفتحُ العيون ويُكشّفُ السرُّ عندما يختفي الربُّ عن تلاميذه. امتلأ التلاميذ فرحاً عظيماً عندما انفصل عنهم السيد وصعد إلى السماء. يُقضى على سلطان الموت بصلب الإله المتجسِّد، وتكتسب حياة الإنسان قيمةً عندما يَخسرُها، يُغبَّط الإنسان عندما يموت، ويصل إلى ” الحقِّ كلِّه” من الروح القدس غير المتجسِّد.
تمجَّد المسيحُ في بيت لحم عندما أفرغ ذاته، وعندما تواضع في نهر الأردن، وعلى جبل ثابور عندما تجلَّى، وعندما صعد إلى جبل الزيتون، وفي الجلجلة عندما ضحَّى بنفسه، وفي القبر بعد قيامته. لذلك يُسمَّى ملك المجد، وكلُ هذه الأحداث تُبطل التفكير العقليّ الأعتياديَّ وتسحقه لكنَّها تظهر عظمة سرِّ الإنسان.
هذا الذي يخفي كلّ إنسانٍ بداخله، حتى لو كان هو نفسُه يجهله، مدعوٌّ لكي يُظهره. الكنيسة هي كنيسة القيامة لأنها تعرف كيف تحثُ المؤمنين على الدخول من الطريق الضيِّق، والسير في الطريق المحزنة، واتِّباع السيد حاملين صليبهم، والعيش مصلوبين مع المسيح، ورؤية الحياة من خلال الموت وتمييز الخلاص من خلال الألم.
واضعين معاناتنا على الصليب الربّ، والموت فوق قبر الربّ الذي حوَّله إلى عرش له، نستطيع أن نعيش نتائج إيماننا بالمنتصر على الموت: “فمن آمن بي تجري داخله أنهارُ ماءٍ حيّ“، إنَّ من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها أنا، ويعمل أعظم منها“، ” ومن كان حيَّاً وآمنَ بي فلن يموت إلى الأبد“.
الإيمان الأصيل، البريء والطاهر بألوهة المسيح يكشف عن الله. هناك حيث يختفي وحيث لا يمكن مشاهدته.
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
التنضيد الالكتروني: ريتا برايا ـ قنشرين