“تهبّ نعمة الله حيث تشاء”
عائلةٌ فتيةٌ، أناسٌ يعيشون بالفعل حياةً كنسّيةً مباركة، مكرّسين بطهارة، يتركون حياتهم ببساطةٍ بين يدَيّ الله. وهو يباركهم بيديه الاثنتين. يتعرفون على شيخٍ معاصرٍ معروفٍ بقداسته واستنارته، إنّه الشيخ بورفيريوس. يُديرّ حياتهم بكلّ تفاصيلها، يردّ عنهم كلّ خطرٍ ويحميهم من كلّ تهديدٍ.
صَلاُته تزيل كلّ عائقٍ يواجهونه. تمرّ أيامهم بهدوءٍ وفرحٍ خاليةً من أيّ هَمّ. وهبهم الله خمسة أولادٍ، ابنتان وثلاثة صبيان. الإبنة الكبرى ايفا، موهوبةٌ، واعيةٌ، ذكّيةٌ ونبيهةٌ. ترتسم على وجهها علامات النضج المبكّر، صورةٌ سماويّة. تتمتّع بأسلوبٍ لطيفٍ يجعلها محبوبة عند الجميع، فهي جذّابةٌ، وفي الوقت نفسه تعطي شعوراً بالاحترام والوَقار.
تبلغ من العمر اثني عشر عاماً، إنّها فعلاً ملاكٌ حقيقيّ. “كلّ الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبّون الله”، بهذا الإيمان يتحلّى الأهل وبطريقةٍ عفويّة جداً يمجّدون الله. يا إلهي، كم هي بركةٌ كبيرة!
فجأةً، وفي أحد الأيام وبينما تعبر ايفا الشارع الرئيسيّ أمام مكتب والدها، تخرج سيارةٌ عن سيطرة سائقها، وتنقلب حياة كلّ العائلة، التي كانت حتى تلك اللحظة هادئةً، رأساً على عقب.
تدخل الطفلة المشفى ومن هناك ترحل إلى عالمٍ آخر، “حيث لا وجعٌ ولا حزنٌ ولا تنهّدٌ، بل حياةٌ لا تفنى”. تنتقل ايفا بسرعةٍ، ودون أن يفهم أحدٌ كيف ولماذا، إلى النعيم الإلهيّ، تاركةً أهلها في جحيم الألم، وكأنّ الله اختفى من أمامهم.
عندما تسير الأمور وفق مشيئتنا، يكون الله جيداً، وعندما تنقلب الظروف بشكلٍ مفاجئ وقاسٍ لا يتأكدّ غيابُ الله فقط، ولكنْ عدمُ وجوده أيضاً. لم يشاركهم الأب بورفيريوس في آلامهم مشاركةً و جدانيّةً وحسب، بل كان مصرّاً على عظم محبّة الله والتي كان يعبّر عنها هو نفسه بقدرٍ كبيرٍ من الحنان، بالإيمان والمحّبة اللذين يبطلان كلّ شكًّ أو رَيب.
أصبحت حياتهم الآن شاقّةً. فَبدَلَ أنْ يكون مصدرُ إلهامنا ملاكاً أرضّياً لا يُشفي غليلنا منه حتى ولو صافحته يدانا، لم نعد نستطيع أن نفعل شيئاً سوى أن نستحضره بإيماننا المجروح وصلاتنا الفاترة.
تمرّ الأيام، يكبر الأولاد الآخرون ومع نموّهم وبمواهبهم يملؤون حياة الأهل ببهجةٍ نسبيّةٍ، لكن يبقى الحزن والألم مسيطران رغم كلّ شيءٍ. يتابع الأب حياته مسلَّماً إياها للمشيئة الإلهيّة. سَندُهم الأول هو الابنة الثانية ذِيسبينا. وهي تختلف كلّياً عن أختها ايفا. تحبّ المزاح، مملوءةٌ حياةً، تركض طيلة الوقت ودائماً تضحك.
كلّ ما يشعُّ منها يعبّر عن الفرح والأمل والسعادة ويعكس بريق براءة الأطفال الذين لا قلق لديهم، تلفتُ نظرك إليها وتتكوّن عندك الصورة بأنّها ممن “سيرثون الأرض”، انعكاسٌ لمواطنيّ ملكوت الله. يوحي لك هذا النوع من الأشخاص أنّه لا علاقة له بالخطيئة والمرض والموت. وعند التواصل معه عن قرب تتغاضى عن كلّ ما هو سلبيّ وكلّ خطرٍ وكلّ شيءٍ مظلمٍ، تشعر قربها بالسكينة والهدوء الكليّ بكل ما تعنيه الكلمة من معنىً، إلا إذا كنتَ الأمّ التي فقدت ابنتها ايفا من بين أحضانها فجأةً، تفقد ملاكاً من سمائك دون أن يكون بمقدورك استيعاب ذلك، لأنك في وقتٍ ما كنت تؤمن بطريقةٍ غير صحيحةٍ، وأمّا الآن فيجب أن تتعلّم كيف تشكّك في إيمانك.
في يومٍ من أيام الربيع تكون العائلة بأكملها في ديرٍ من أديار إقيرو قرب الحدود الشماليّة لليونان، لحضور رسامة راهبٍ صديقٍ للعائلة. هو أيضاً محبٌّ للمرح، صديقٌ للأولاد، بسيطٌ وودودٌ رغم كلّ الخشونة التي تبدو على هيئته، ورغم ثيابه قولاً وفعلاً في الوعود الرهبانيّة المطلقة التي يقطعها الراهب فإنّ صورته تشبه صورة ولدٍ كبيرٍ سعيدٍ، يداعب الأولادَ وهم يبادلونه الابتسامة، وكم كانت ذِيسبينا فَرِحَةً معه. ساد الجوَّ العام فرحٌ عظيمٌ وبالتأكيد نعمةٌ أعظم، ولكن ليس هناك من مستحيل!
بعد أربعة أيامٍ من رسامة الراهب، وأنا في أثينا تلقّيت مكالمةً هاتفيةً من صديقٍ مشتركٍ لنا، طبيب أسنان وكِدْتُ لا أصدّق ما سمعت.
تماسك يا أبتِ… لن تصدّق ما ستسمع.
ما الذي يجري، هيا، أخبرني.
ذِيسبينا… منذ أيامٍ كان لديها ألٌم في ضرسٍ خلفيّ في الحنك السفليّ.
تلك حالةٌ اعتياديّة، قرّرنا أن نعاينها بعد عودتهم من الدير من إقيرو. قمنا بإجراء تصويرٍ شعاعيًّ وأنا متأكد بأنّ ذِيسبينا عندها ورماً في الفك السفليّ. لا أستطيع أن أصدّق.
أحاول ما بوسعي لأدحض التشخيص المبدئيّ، ولكن دائماً يتأكّد هذا التشخيص.
كنت أعلم ماذا يعني ذلك: خلع الفك السفليّ ثمّ استبداله بجانبٍ واحدٍ من عظمٍ من عظام الحوض (أو من العاج، لست واثقاً)، علاجٌ مكّثف، وستصبح الحياة شاقّة. أضف إلى ذلك أنّ نسبة البقاء على قيد الحياة أقلّ من عشرة بالمئة ولمدة خمس سنوات، خيرٌ لك أن تنهي حياتك من أن تعيش هكذا عاجزاً عن التأقلم مع مثل هذا التطور، فالله الذي كنت أؤمن به لا يمكن أن يسمح بمثل هذه الأمور.
ألعلّك ارتكبت خطأً ما؟ ربما عليك أن تعيد بعض الفحوصات، هل يُعقل أن ينشأ عن وجع ضرسٍ عاديّ ورماً في الفك السفليّ؟
للأسف تشخيصُ أورام الفك السفليّ سهلٌ وواضحٌ لكّنه ينبئ بالسوء. اتصلتُ بك فقد يكون بإمكانك مساعدتهم بطريقةٍ ما على المغادرة فوراً إلى أمريكا. يجب ألا يضيّعوا أيّة لحظة.
لم يكن قد مرّ الكثير من الوقت على ذهابي إلى أمريكا، كنت قد التقيت حالةً مشابهةً عند طفلٍ يونانيّ، وكنت قد ساعدتهم في الترجمة والتواصل مع الأطباء. ففي كلّ مرةٍ كنت ألتقي بذلك الطفل. ولدٌ أشقر عمره سبع سنوات كان فؤادي ينفطر من هول المنظر. آلاف التساؤلات كانت تنهال عليّ، لم أشعر بالدوار والضغط هكذا بهذا المقدار في حياتي سابقاً.
في النهاية لم يتمكن الطفل من البقاء على قيد الحياة، قضى عدّة أشهرٍ في المشفى وكانت آلامُه شديدة، لا يمكننا أن نعتبر هذه المدة حياةً. كان النظر إليه كافياً ليفطر قلوب الأهل البائسين بفظاعةٍ، وأثبت أنّ أفضل العلوم عالمياً لم تستطع أن تمدّ له يد العون.
والآن يتكرّر هذا المشهد أمامي ثانيةً. سيذهب الأهل حاملين معهم الأمل إلى أمريكا، إلى أفضل مركزٍ وربما إلى أفضل الأطباء في العالم، وسيعودون إلى اليونان باحتمالات. سيذهبون بولدٍ مريضٍ صورته طبيعيةٌ وسيعودون بما لا يُرى ولا يُحتمل، هذا في أفضل الأحوال.
كان الأبُ، ذلك الإنسان البطل، على علمٍ بالحقيقة كاملةً، أما الأمّ فلم تكن تَعلم الكثير عن حالة طفلتها المرضية. ذهبا إلى الشيخ بورفيريوس ليأخذا بركته للمغادرة إلى أمريكا. وكما هو بطبيعته إنسانٌ عطوف، يُعبّر عن لهفته واهتمامه الشديدين. المنفذ الوحيد الذي سمح بدخول شعاع أملٍ كان حَدْسَ الشيخ بورفيريوس الذي اقترح عليهما أن يغادرا فوراً لأمريكا. على ما يبدو كان في قلبه بريقُ أملٍ، مع قلقه ومحبّته الكبيرين. كان هذا تأكيداً على ضرورة السفر فوراً إلى الخارج.
غادر الأهل خلال أسبوع مع ابنتهم إلى أمريكا، إلى مدينة أوهايو. كم كانت الرحلة شاقّةً! امتزح القلق مع الرجاء، واليأس مع الأمل؛ فالخوف من أنّ كلّ ما يقومون به يمكن أن يظهر عاجزاً كليّاً على المساعدة كان أشبه بسكينٍ تمرَّر فوق الجرح، مما جعل النفس تتألّم أكثر من الجسد. صلاة الشيخ بورفيريوس كانت عزاؤهم الوحيد.
تسير الأمور بسرعةٍ هائلةٍ، فبعد ثلاثة أيام من وصولهم إلى أمريكا يُحدَّد موعد العملية. أُعيدت كلّ الفحوصات الطبيّة، وتمّ التأكّد من تشخيص المرض، والأطباء صرّحوا بالحقيقة، هكذا يحتّم القانون وهكذا تفرض العقليّة هناك، أي الاعتراف الصريح بأنّ ذِيسبينا لديها سرطانٌ في الفك السفليّ.
يوم العمليّة وفي الساعة الرابعة بعد الظهر بتوقيت اليونان يرنّ هاتفي. في الطرف الآخر صوت الأم. أبتِ، كيف حالك؟ لا أستطيع الاحتمال. قبل قليلٍ دخلت ذِيسبينا غرفة العمليّات، أخبرني الأطباء أنّ العمليّة ستستغرق سبع ساعات، أوشك على الجنون. بالأمس درّبوني على كيفيّة إطعامها، أعطوني حقيبةً مليئةً بالأدوات لأني سأفتح وأغلق فمها ميكانيكيّا لإطعامها.
شاهدت ولداً آخراً كان قد أجرى العمليّة في الأسبوع الماضي وكدتُ أُجَنّ. لا أستطيع الاحتمال، أبتِ، لا طاقة لي على ذلك، صلَّ لأجلنا. أحاول الاتصال بالشيخ بورفيريوس لكّنه لا يردّ على الهاتف. أتمنى أن يصلّي لأجلنا.
أمّا أنا فبقيت صامتاً، ماذا أقول؟ بالطبع قلتُ شيئاً ما ولكنْ لا أتذكرّ، بعض الكلمات التي إذا وُضعَت بجانب بعضها بعضاً لا تعبّر عن معنىً، ولا تترك انطباعاً يوحي بالقوة أو الحياة.
أغلقتُ الهاتف. مدينة أوهايو، حوالي الساعة الثامنة صباحاً بتوقيت أمريكا. طلبتْ منّي أن أصلّي. ماذا يمكن أن تفعل صلاتي؟
طالما ليس هناك أملٌ، طالما أني لا أؤمن، وطالما أنّ الشيخ بورفيريوس يصلّي لأجلهم؟
وماذا أطلب من الله؟ ألا يعلم حاجاتِنا؟ ألا يُشاهد مأساتَنا؟ وطالما أننا لم نستطع حتى الآن أن نستعطف محبّة الله، فلأيّ سببٍ سأصلّي من الآن وصاعداً؟ وبماذا أتضرّع إلى الله طالما أّني لا أؤمن، يا لخجلي.
بأّية حالٍ، صلّيت قليلاً لأجلهم، أخذت مسبحتي وطلبت إلى الله أن يرحمنا جميعاً. على الأرجح كان هذا الشيء الأسهل، لأنني لم أكن مرتبكاً بأفكار. لو كنت أنا الله وشاهدت كاهناً حزيناً بائساً يصلّي مثل هذه الصلاة، لرَثَيْتُ لحالِ هذا الكاهن ولحالِ الكنيسة التي كهنتها مغلوبٌ على أمرهم إلى هذا الحدّ. الوقت يمرُّ ودون أن أدرك، الساعة الخامسة والنصف يرنّ الهاتف، مرةً ثانية الأمّ من أمريكا.
ـ أبتِ، بعد قليلٍ ستخرج ذِيسبينا من غرفة العمليّات. في النهاية كان شيئاً بسيطاً ودون أهميّة تُذكر. نجتْ بعمليةٍ بسيطةٍ هي خلعُ ضرس. أخبروني أنّه كان عبارةً عن جيبٍ شوكيّ وهذا ليس سيئاً للغاية. ما معنى هذا؟ هل تعرف أنت؟ أنا لا أعرف. أعتقد أنهم يقولون لي الحقيقة. أرجوك حاول أن تتصل بالشيخ بورفيريوس لأنّنا لم نستطع إيجاده، هو يعرف ما معنى كلّ هذا. عبّرت بشفتيّ فقط عن بهجتي، لكنّي احتفظتُ في داخلي بشكًّ قاتلٍ وأغلقتُ الهاتف. هذا مستحيل، قطعاً هذا غير ممكن، هذا ما ظننته.
اتصلتُ فوراً بصديقي طبيب الأسنان الذي في اليونان وقصصتُ عليه الحدث. تحدّثنا معاً لقليلٍ من الوقت، يملؤنا الشكّ والأفكار، وبمعلوماته التخصّصية توصّلنا إلى النتيجة التالية: إنّ تشخيص الورم كان شديد الوضوح ، والتشخيص تمّ في أمريكا منعاً للالتباس بين الجيب الشوكي والورم.
والحالة الصحيّة كانت سيئةً لدرجة أنّهم قرّروا ألا يقوموا بجراحةٍ جذريّة. فلم تكن الأم تستطيع وبهذه الحالة النفسيّة المجروحة أنْ تتقبّل الحقيقة، لذلك أخبرها شخصٌ ما هذه الحكاية الجميلة لكي لا تنهار بالكليّة. يبدو أنّ الأمور كانت أسوأ مما نتوقّع.
قرّرنا أنا وصديقي ان نتصّل بالشيخ بورفيريوس، لعلّه تحدّث أيضاً مع والد ذِيسبينا، ولديه معرفة أكثر بحالتها.
يتصل الطبيب بالشيخ بورفيريوس ويجيبه الشيخ:
“جزنا بالنار والماء وأخرجتنا إلى الراحة”، أخيراً لم يكن شيئاً ذا أهّمية. خلعوا ضرساً فزال عنها وعنا التوتّر.
ماذا حصل يا أبتاه؟ هل اتصل بك والد ذِيسبينا؟
لا، لم أتكلّم مع أيّ شخص. كنتُ أصلّي والآن أجبتُ على الهاتف وتَعزّتْ نفسي. ذِيسبينا على ما يرام. إذا تحدثتَ معهم قلْ لهم ألا يستعجلوا في العودة، ولكن ليبقوا أسبوعاً أو أسبوعين ويستمتعوا في أمريكا.
بدلاً من الورم الخبيث وجدوا كيساً، وبدلاً من أنْ يخلعوا كلّ الفكّ السفليّ خلعوا ضرساً واحداً. بدلاً من أن يتذوّقوا طعم الموت، كلُّنا تذوّقنا طعمَ خبرةِ أعجوبةٍ فريدة. أعجوبة اجترحها الله. ولكنْ هذه الأعجوبة لم تكن لتتمّ لولا صلاة الشيخ بورفيريوس.
أنهت ذِيسبينا المرحلة الثانويّة وتزوّجت، لديها اليوم عدّة أولاد، يمّيزها قلبها الكبير، وهي مملوءةٌ حياةً وإيماناً. حياتها عبارةٌ عن أعجوبة. لا ينقصها شيء، بالأحرى شيءٌ واحدٌ ينقصها … وهو ببساطةٍ ضرسٌ خلفيٌّ سفليٌّ لا يُشاهد. ولكن لو كان يُرى لجعلها أجمل بكثير، لأنه لن يشير ما هو عليه، ولكنه سيعكس حقيقة أنّ “نعمة الله تهبّ حيث تشاء”
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
التنضيد الإلكتروني: إيفا نعمة حيداري ـ قنشرين