“حيث يشاء الله يُغلَب نظام الطبيعة”
في شهر نيسان من عام ١٩٨٥ كانت طفلةٌ صغيرةٌ عمرها عشر سنواتٍ، تدعى أولغا، تعاني منذ خمسة أشهر تقريباً من تضخّمٍ دماغيًّ يستدعي تقليصُه إجراء علاجٍ شعاعيًّ إذ لا يمكن علاجُه جراحياً، وقد عانت في الآونة الأخيرة آلاماً مبرحة ودوراناً شديداً. والداها إنسانان بسيطان من أثينا. أوضح لهما الأطباء في اليونان منذ البداية صعوبة المشكلة، والأملُ الأخير، الله في المقام الأول يتلوه العلاج في أمريكا. دعاهما أحد أقاربهما في مدينة بوسطن إلى أمريكا بكلّ رحابة صدرٍ، أخبرهما أنَّ أفضل مشفى أطفالٍ في العالم موجودٌ في بوسطن، لذلك جمعا حاجياتهم الضروريّة فوراً ووصلا إلى أملهما الأخير، أمريكا.
قصّتهما تزخر بالمعاناة والضغوطات الداخليّة. كيف يسمح الله بمثل هذه التجارب! فقد مضت سبع سنواتٍ على زواجهما حتى تمكّنا من إنجاب طفلة. إنسانان بسيطان، غير مثقّفين وليس لديهما حياة إيمانّية ممّيزة. فبينما كانا قد فقدا الأمل في الإنجاب وهبهما الله طفلةٌ. مجّدا الله على هديته وأصبح الله محور حياتّهما. وعندما بلغت الطفلة العاشرة من عمرها، وهي الابنة الوحيدة الغالية، بدأت تظهر أعراضٌ غريبةٌ، وجعٌ شديدٌ في الرأس وضيقٌ شديدٌ في التّنفس، فقاموا بإجراء الفحوصات الطبيّة للوصول إلى تشخيص الحالة والذي عند سماعه قد تعجز عن الوقوف، ويصدع رأسك، وينقطع تنفسك، ويتمزّق قلبك.
وصلوا جميعاً الى أمريكا حاملين معهم هذه المأساة، تاركين أعمالهم دون أن يعلموا متى، وكيف، وإذا ماكانوا سيعودون إلى وطنهم سويْة مع طفلتهم. ولكن تصحبهم أيضاً من جهة ثانية، براءةٌ وأصالةٌ وقوةٌ إيمانية. فمنذ سنةٍ ونصف حصلوا على بعض التسجيلات الصوتّية لعظات شيخٍ (كاهن) كانوا قد تعرّفوا عليه فتغّيرت كلياً كلّ آفاق المستقبل أمامهم. ملأتهم هذه التسجيلات إيماناً نابعاً من القلب. ماذا كان جواب الله لهم عندما كانوا بعيدين عن الكنيسة؟ ولادة أولغا. وحالما دخلوا الكنيسة، تُصاب أولغا بالسرطان! لماذا فعل الله هذه الأمور؟
لماذا يُعبّر الله عن وجوده بطريقةٍ لا أحد يريدها؟ ألعلّنا في النهاية نؤمن بألهٍ غير موجودٍ ونجهل الإله الحقيقيّ، والذي علينا أن نكتشفه كما هو بالحقيقة وليس كما نحن نريده؟
تعاونت أولغا إلى أقصى درجةٍ مع الطبيب جون شيليتو وفريقه، ربما هو أفضل طبيب أخصائي في الأورام العصبيّة في مشفى الأطفال في بوسطن، قدّم الجميع، وبمحبةِ كبيرةٍ، كلّ مابوسعهم كما لو أولغا مريضتهم الوحيدة.
بدا كلّ شيءٍ على مايرام حتى دخلت أولغا مريضتهم الوحيدة. فجأةً في غيبوبة. أظهرتْ سلسلةٌ من الفحوصات أنّ الورم قد انتشر في مساحةٍ كبيرةٍ من الدماغ. تلاشت الآمال الأخيرة في الشفاء. بين لحظةٍ وأخرى يُقدَّم إعلان الحالة الصحيّة للوالدين. يجب إعلامهما ليقرّرا إذا ماكانا يفضّلان أن تموت الطفلة هنا في بوسطن ويُنقَل جثمانها بعد ذلك إلى اليونان، أو أنْ تُنقَل كما هي حالتها الصحّية الراهنة. وطبعاً عندما يحدث ذلك ووفق اتفاقّيات الطيران الدوليّة يجب الحصول على شهادةٍ مصدّقةٍ من طبيب المشفى توضح أنّ المريض ووفقاً للتقييم الطّبي لن يموت خلال رحلة الطائرة.
كل هذه الأمور حدثت يوم الأحد ٢٨ نيسان ١٩٨٥، أحد حاملات الطيب. لايعلم الوالدان شيئاً عن حالة أولغا حتى الأن، فهما ببساطةٍ، قلقان ينتظران الأسوأ.
في الساعة السادسة بعد الظهر سيتحدّث الطبيب شيليتو إلى الوالدين بأدق التفاصيل عن حالتها. لم يقبل أحدٌ من المتطوّعين اليونانّين الذين يساعدون المرضى في المشفى أن يترجم للوالدين. تجنّب الجميع ذلك. إنه لأمرٌ صعبٌ جداً وشديد الوطأة أن تُعلن لأبوين من فمك أنّ أبنهما لا أمل لديه في البقاء على قيد الحياة وسيموت عاجلاً.
في نهاية المطاف وقعت القرعة عليّ، كنت قد سمعتُ عن حالة الطفلة، ولكن لم أكن أعرف أيّاً من الطفلة أو والديها. لم يكن بوسعي فعل شيءٍ آخر، قَبِلْتُ أن أساعدهما على تحمّل هذا العبء الثقيل الذي لايطاق.
ركبتُ المصعد إلى الطابق الثامن، وهو الطابق المخصّص للأطفال المصابين بأمراض السرطان. شعرتُ بضيقٍ عظيمٍ، كنت متوتّراً، واهناً، مظطّرباً. خرجتُ إلى الممرّ، ثمّ دخلتُ غرفةً فيها ثلاثةُ أسرّةٍ هزازةٍ لأطفالٍ ملفوفين بأنابيب وخراطيم للعلاج الكيميائي، بعضهم رأسه خالٍ من الشعر، يشاهدون الرسوم المتحّركة على التلفاز ويضحكون. في الجانب الآخر من الغرفة فتاة في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمرها تجلس على أريكةٍ غارقةً في التفكير، ضائعةً في عالم المجهول.
عينان متألمتان، وبنظرةٍ عميقةٍ جداً تلتقيان مع عينيّ. ثمَّ وَرَدَ إلى ذهني هذا التساؤل: لماذا يُعذّب هؤلاء الأطفال؟ ولماذا يتذوّقون مرارة المشفى وكآبة الحزن بدلاً من حلاوة الحلم بالمستقبل؟ لماذا يا إلهي؟ دقائق قليلة قبل أن أصل إلى مدخل المشفى، شاهدت أطفالاً يلعبون في الحديقة وكأن شيئاً لم يكن والأهل يضحكون فخورين بهم. كم الفرق كبيرٌ، يتعذّروصفه! قابلتُ ثلاثة أشخاصٍ يتحدّثون اللغة اليونانّية، رجلان وأمرأة. كنت أكيداً أنّ اثنين منهما هما والدا أولغا والشخص الثالث هو عمّها. اقتربتُ منهم وعرّفتُ عن نفسي. شكروني قبل أن أبدأ الحديث ثم دُعينا إلى مكتب الدكتور شيليتو. وقع نظري على ثلاث صورٍ هي لبناته الثلاث الشابات، عُلَّقت فوق مكتبه، وهو فخور بهنّ. لا شكَّ أن هذا طبيعيّ ومبارك. وأولغا في الغرفة المجاروة، وجهها مرتعشٌ تصارع الموت. ووالداها يوشكان على فقدان صوابهما.
بعد مقدّمةٍ مقتضبة بدأ الطبيب بالحديث عن حالة أولغا:
كما تعرفون، أولغا، لديها ورمٌ في الجزء الثالث من الدماغ ولايمكن علاجه جراحّياً. حاولنا أن نعالجها بالأشعة آملين أن نحدّ من انتشاره في الدماغ. كان تجاوب أولغا مع العلاج جيّداً جداً لدرجة أنّنا تفاءلنا بشفائها. ولكنْ للأسف ؤوهنا اضطرب الوادين ـ أمس دخلت أولغا في غيبوبةٍ عميقةٍ وتشير نتيجة الفحوصات إلى أنها لن تستيقظ من غيبوبتها. غرق الأب في الدموع والأم ّ متماسكة.
ـ أيّها الطبيب، اخبرنا بصراحة أكثر.
ـ أعتقد أن أولغا لن تستطيع تجاوز هذه المحنة، ستفارق الحياة بين لحظةٍ وأخرى.
ـ ماذا تقصد بقولك بين لحظة وأخرى؟ تجرأت أنا وسألت.
ـ أعني اعتباراً من اللحظة الحاضرة… بعد ساعاتٍ معدودةٍ… وربما خلال الليل …أعتقد أنها على الأرجح ستموت هذه الليلة. كان بودّي أن أخبركم أنها يمكن أن تبقى على قيد الحياة حتى الغد لكنّ ذلك صعب جداً.
ـ أتعني أن معجزةً فقط يمكن أن تشفيها الآن؟ قالت الأمّ.
ـ نعم معجزة فقط. كرّر الطبيب قول الأمّ.
يتابع الأب البكاء ولكن بانضباط. وتتابع الأم الحديث:
ـ شكراً جزيلاً على كلّ مافعلته طيلة الوقت لطفلتنا أولغا. قد نخسر المعركة كبشر لكننا نستعدّ لحدوث المعجزة. على الرغم من تشخيصكم فإنّ اولغا إمّا أن تشفى وتصبح على مايرام، أو ستصير ملاكاً قرب عرش الله. وهل هذه معجزة وضيعة؟ إنها طفلة طّيبة جداً. بالطبع نحن نصلّي بكل ما أوتينا من قوّةٍ ليتحقّق الأمر الأول فنحن قليلو الإيمان. ولكنْ إذا سمح الله بالأمر الثاني فعندئذ سنقبل إرادة الله كنعمةٍ، ببساطةٍ، علينا الآن أن نعلّق آمالنا كليّاً على الله . كان خطؤنا أننا لم نفعل هذا منذ البداية. لقد وضعنا رجاءنا أوّلاً على الأطباء ومن ثم على الله .
ـ إنها الحقيقة، هذا هو إيمانكم وهو الذي سيساعدكم الآن قال الطبيب.
ـ لافهذا الإيمان لا يساعد، هذا الإيمان بشريّ، شأن بشريّ يخصنّا. من يساعد هو الله نفسه وحسب.
أما أنا فكنتُ مجرّد مترجم لكلّ هذا الحديث وكنت أصغي مذهولاً. كم هي قويّة ومؤمنة هذه المرأة! والدليل على ذلك أنّ حديثها لم يكن ناتجاً عن تحليل نفسي ولم يكن مجرّد عظة. كان حديثها يخرج من أعماقهما عفوياً وبهدوءٍ وبساطةٍ لدرجة أنها كانت مقتنعةً بكل ماتقوله، وهذا يعكس تماماً وبكلّ وضوح عمق عالمها الداخليّ. كانت تتفوّه بكلماتها بوقارٍ وطمأنينة، وبطريقة لطيفة وواقعية. خرجنا من المكتب وتحدّثنا سوّية لكي نتعّرف على بعضنا البعض. في أوقات عصيبةً كهذه يرتبط الناس ببعضهم برباطٍ قوي، ولكن ماهو أمامي عظيم وفوق العادة. هذه المرأة بسيطة ولكنّها واسعة الإدراك.
وماتفوّهت به من كلامٍ يدلّ على الإقناع كما لو كانت تخاطب القلب. أُعجبتُ بقوّتها الداخلية أكثر من أيّ شيًء آخر.
شكروني بحرارةٍ بالغةٍ ثمّ افترقنا. كنتُ مضطراً للمغادرة فقد كان لديّ التزامات أخرى، لكنّي قرّرت العودة لرؤيتهم في المساء، آملاً أن ألقى أولغا على قيد الحياة. كنت أتصل بين الفنية والأخرى بمكتب المعلومات لأطمئنّ على وضعها الصحي.
عند الساعة العاشرة والنصف مساءً كانت أولغا لا تزال تصارع للبقاء على قيد الحياة. كوستاس وماريا والدان عظيمان، كانا هادئين مستعدَّين لكلّ الاحتمالات، ولكنّهما أيضاً كانا يصلّيان وداخلهما أمل بأعجوبةٍ “صغيرة”… هكذا كانا يقولان. إنّ الله الذي وهبهم هذه الأبنة والذي كان ذلك بمثابة معجزةٍ عظيمة، ألا يستطيع أن يبقيها على قيد الحياة! ولكن ببساطة فإنّ المشكلةـ كما يقولون ـ هي خطاياهم!
عند الساعة الحادية عشرة مساءً تمّ تجهيز الأسرّة لمرافقي المرضى. هذا المشفى مذهل، الخدمة الاجتماعيّة فيه تهتمّ بكلّ شيءٍ. هدف المشفى أن يؤمّن المنامة لأهل الطفل في أيّ وقتٍ يريدون. ولكن كان من الصعب على أهل أولغا ان يناموا. ففضّلوا ان نتحدّث لكي يبقوا ساهرين. على كلّ حالٍ، كان الطبيب قد أخبرهم أنّ أولغا لن تثبت هذه الليلة. لكن إيمانهم لا يوصف… كانوا يتحدثون عن الأبدية كما نتحدث نحن عن حياتنا الروتينيّة اليوميّة. مهما كانت مشيئة الله فهي بالنسبة لهم أعظم بركة. ببساطة في الحالة الأولى سيعيشون فرحاً عظيماً، وفي الحالة الثانية (أي إذا ماتت) سيعيشون الحدث كصراعٍ مدى الحياة مع الحقيقة. الحالة الثانية، هي الأصعب، وتبدو الأكثر واقعية حالياً. ولكن الحالة الأولى هي المرتجاة.
بقيتُ معهم حتى الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. أناسُ مهما جالستهم لايُمَلّ من الحديث معهم أبداً. سبق والتقيتُ أناساً مؤمنين، لكنّي للمرة الأولى في حياتي أصادف إيماناً من هذا النوع. ليس إيماناً بعد وفاة شخص عزيزٍ، لكنه إيمان يعيشه أشخاص وهم يعلمون أن وحيدتهم ستلفظ آخر أنفاسها في لحظاتٍ قليلة. بقربهم ترقد أولغا دون حراكٍ، في غيبوبةٍ عميقة، دون أيّ تواصلٍ مع العالم الخارجي. ربّما هي على اتصال بعالمٍ آخر مجهولٍ تعرفه هي وحدها. كانوا يلقون على جسدها الهامد الصغير نظراتٍ خاطفةً بين الفنية والأخرى، فيختلط التساؤل المؤلم بإيمان لا يبرّره المنطق.
في النهاية، صمدت أولغا تلك الليلة. لم يّصِب الطبيب في تقديره للوقت. ياترى من يدري لماذا، هل يمكن أن يخفق هو وتشخيصه الطبيّ. كم هو رائع في بعض الأحيان ألّا يصدُق العلم!
في الصباح اتصلتُ مع بعض السيدات، أردت ان أشاركهنَّ انطباعاتي عن هذه العائلة، فاقترحتُ عليهنَّ أن نقوم بزيارة الوالدين في المشفى لدعمهم معنوياً من جهةٍ، ولكي يقتدنَ هنَّ أيضاً بإيمان هذين الوالدين العظيم من جهةٍ ثانيةٌ. صمدت أولغا أيضاً يوماً آخر. فيوم الإثنين عند عودتي من عملي مساءً جئتُ إلى المشفى للقائهم مرّةً أخرى. قرّرالوالدين أن يأخذا الطفلة إلى اليونان لكي تموت هناك. أُنجِزت كلّ الإجراءات اللازمة. وأخيراً، تم ترتيب أمور السفر، فإن بقيت على قيد الحياة سيسافرون يوم الأربعاء الأول من شهر أيار عام ١٩٨٥ في رحلة شركة الطيران أولمبيك من نيويورك. بقيتُ حتى وقتٍ متأخرٍ معهم مستمتعاً بهذه النعمة العظيمة التي يحملها هذان الوالدان ومنتظراً رحيل أولغا إما بالطائرة إلى اليونان أو مع الملائكة إلى الوطن الأبدي. لحظاتٌ مؤثرةٌ تتّسم بالأصالة، وبعالمٍ من الإيمان المعاش في أسمى وأعلى درجاته.
صباح الثلاثاء٣٠ نيسان يرنّ هاتفي ، إنها إحدى النسوة الثلاث اللواتي سبق لي أن تعرّفت إليهنّ اليوم الفائت، كانت قد تحدّثت لتوها مع أبيها الروحي، الشيخ بورفيريوس الذائع الصيت، الذي كان أباً قدّسياً ذائع الشهرة بنعمة رؤسة المستقبلات، يرى أماكن يستحيل على النظر البشري مشاهدتها وإدراكها. أخبرَ السيدة فاسيليا من الحديث أن الأمل في شفاء أولغا لايزال موجوداً.
ـ لاتستعجلي وتقولي أيّ شيء، قلت لها. طالما تعرفين الحالة. لقد رأيت التصوير الشعاعي. الطفلة لن تصمد، وأنا أتحيرّ كيف بقيت على قيد الحياة حتى الآن، وأنت شاهدتِ ذلك بأمّ عينك. من الأفضل أن نقول القليل ويتحقّق الكثير، بدلاًمن إعطاء الأمل وفي النهاية لا شيء يتحقّق.
صمدت أولغا حتى يوم الثلاثاء. زرتهم كعادتي حوالي الساعة العاشرة مساءً، وكانت هذه الزيارة بالنسبة لي درساً آخر في الإيمان. دخلت إلى الغرفة ورأيتُ مشهداً غير اعتياديّ في مشفى أمريكي. أولغا جالسةٌ في سريرها، في غبطتها كما نعرفها ووالدها يقف جانباً منعزلاً. والدتها والسيدة فاسيلييا ـ سيدةٌ مدهشةٌ بخدمتها المجانية للكنيسة، وهي يونانية الأصل تعيش في أمريكا، وكأنها أم حقيقية لهؤلاء الأطفال ـ تقرأ لهم براكليسي غير معروف بالنسبة لي. أشعلوا بخوراً، وضعوا أيقونة السيدة العذراء قرب رأس الطفلة، وأشعلوا قنديلاً وبدؤوا الصلاة. كنت واقفاً بجانب الباب تماماً. نصفي داخل الغرفة والنصف الآخر خارجها في الممر. اقتربت منّي ممرّضةٌ وسألتني:
ـ ماذا يفعلون؟ ماهذا الذي يصعد منه الدخان وله رائحة؟
ـ إنهم ينتمون إلى كنيسة أرثوذكسيّة مسيحيّة شرقّية. أجبتها مشدّداً لعلّها تعرف أمراً عن الثقافة الشرقيّة.
غادرت الغرفة وبقي الأخرون في الداخل . أعرفُ صلواتٍ كثيرةً ولكن مثل هذه الصلوات لم أسمع من قبل.
أنهوا قراءة الصلوات بعد حوالي ربع ساعة. كان لديهم زيتٌ مقدّسٌ من أيقونة العذراء من جزيرة تينوس وأيقونة العذراء كانالا، للمرة الأولى أسمع هذا الأسم . دهنوا بالزيت المقدّس جبين الطفلة ورأسها ثمّ يدها اليمنى واليسرى. لم تقم الطفلة بأي حركة. وحالما دهنوا رجلها اليسرى قامت أولغا بثني رجلها قليلاً، حرّكتها وأعادت الحركة نفسها بإيقاع ٍ ثابت. لا شيء آخر. بدأت السيدتات بالصلاة الحار صارختين: أيتهاالعذراء اصنعي أعجوبتك، رسمتا علامة الصليب الكريم وقّبلتا الطفلة أولغا على جبينها، ولكنَّ أولغا لا تزال مستغرقةً في عالمها.
هدأت الطفلة، وبعد قليلٍ اقتربت منها والدتها وقالت:
ـ هل تسمعيننا أولغا؟
أومات اولغا بخفّة ٍبالإيجاب.
ـ افتحي عينيكِ ياطفلتي.
تمدّدت أولغا محاولةً فتح عينيها ولكن محاولتها باءت بالفشل.
ـ هيّا قبّلي السيدة فاسيليا.
حرّكت شفتيها بإيقاعٍ ثابت.
فكّرتُ منطقياً. بالتأكيد لدينا أمل أخير. سألتُ الممرضة إذا كانت الأوراق التي معها جاهزة لتسلّمها للممرضة التي ستأتي بعدها، فالمناوبات عادةً تتغير الساعة الحادية عشرة مساءً، لأنّ كل العلامات كانت تدلّ على ان اولغا سترقد بعد لحظات قليلة. مرّ الوقت. عادت أولغا إلى حالتها السابقة، صمتٌ تامٌ وجمودٌ، عجزٌ كاملٌ عن الاتصال مع العالم الخارجيّ، ودون أيّ ردّة فعل يشير إلى استجابتها. لم يجرؤ أحدٌ على إزعاجها. انقضى منتصف الليل. لم تعد والدة أولغا تستطيع التحمل فانحنت وقبّلت أبنتها على جبينها. يبدو أنها تتجاوب، ولكن على الأرجح أنه خيالنا. النساء متأكداتٌ أن شيئاً ماقد تغيّر. تابع والد أولغا الوضعَ منفعلاً يساوره الشكّ.
لايمكن لأحدٍ إن يقنعني بفكر آخر، كنت متأكداً أننا في أفضل الحالات نتحدث عن تأخر وجيز عن موعد موت أولغا.عملياً الطفلة قد انتهت، ولا أمل لدينا. تقول لي السيدة فاسيليا أنّ إيماني ضعيفٌ. من يدري؟ ربما هي على صواب.
أخبرني الطبيب أنّ أولغا ستفارق الحياة يوم الأحد ليلاً، لكنَّ أولغا صمدت حتى يوم الأربعاء وهي تتحسن تدريجياً، تعطي ومضاتٍ خافتةً من الأمل والحياة والاتصال بالعالم الخارجي. تجعلنا ننقسم إلى مؤمنين يترقبون الحياة وعقلانيين ينتظرون الموت. لقد عشتُ إحباط المجموعة الثانية وبتفكيري العقلاني هذا ودّعت العائلة في رحيلهم إلى اليونان . لقد قرّروا أن تموت هناك.
اتصلنا يوم الجمعة بهم في اليونان لنبقى على اطّلاعٍ بحالة أولغا. أخبرونا أنّ أولغا تتحسّن كلّ يومٍ، لكنها لاتزال في سُبات، تتصل بالمحيط الخارجي بطريقةٍ ما. سيجرون فحوصات يوم السبت. اتصلنا بهم يوم الثلاثاء، بعد عشرة أيام من تشخيص الموت المحتّم، حاولنا مرات ٍ كثيرةٍ ولكن دون أيّ جوابٍ، فافترضنا أنّ أولغا قد ماتت ووالداها أخذاها إلى القرية ليتمّ الدفنُ هناك ولكي يستريحا. بعد بضعة أسابيعٍ طلبنا من كاهن ٍ هناك في أمريكا أن يعمل لها تريصاجيون لاجل راحة نفسها… صلّينا لراحة نفسها من أعماق قلوبنا.
مرّ شهر أيار ثمّ حزيران ودخلنا شهر تموز. لم تصلني أيّة أنباء إذ لم يتغيّر أيّ شيءٍ في مجرى الأحداث. أتى أطفالٌ آخرون من اليونان إلى المشفى حالاتهم متماثلة الخطورة، ويومياً كان يمتزج الفرح مع الألم.
يوم الاثنين ٨ حزيران وصلتُ إلى أثينا قادماً من لندن، وخطَرَ في بالي أن أقوم ببعض الاتصالات، فاتصلت بوالدي أولغا لعلّهما عادا من القرية.
ـ من فضلك، من المتكلّم؟ سمعت صوتاً رقيقاً لطفلٍ من الجانب الآخر.
ـ من أنت؟ سألت متفاجئاً.
ـ أنا أولغا .. تجيب الطفلة.
ـ أنت ِ أولغا؟ من أولغا؟ سألتها مرةً ثانيةً مرتبكاً.
قالت لي اسمها الكامل وتحمّست حين نجحت في اكتشاف هويّتي. أخبرتني أنّ العذراء صنعت أعجوبتها، ودعتني لزيارتها في بيتها لأطرح عليها أسئلةً في الجغرافيا والرياضيات.. ياللعجب، تدعوني الآن لزيارتها تلك التي تسرّعت أنا بتلاوة تريصاجيون لراحة نفسها… طلبتُ والدتها لأتحدث معها هاتفياً.
ـ أيُّ إلهٍ عظيمٌ مثل إلهنا، تقول لي الوالدة من أعماق قلبها.
أغلقتُ الهاتف وانطلقت مباشرةٍ لزيارتهم. فتحت لي الباب فتاةٌ كان شعرها قد بدأ ينمو قليلاً. لم تكن نشيطة جداً فقط، ولكن مملوءة حياة أيضاً. طرحتُ عليها الأسئلة التي طَلَبتها مني، وكانت تجيب بلطفٍ بالغ. شعرتُ وكأني ألعب معها، شعرتُ أيضاً أن تفكيري العقلانيّ قد خذلني، إذ لم أستطع أن أصدّق ما رأيت. حتى آن تشكّلُ حياةُ أولغا بالنسبة لي أقوى صفعةٍ لقلّة إيماني.
بعد خمس وعشرين سنة، أنهت أولغا جامعتها، وهي الآن تُقدّم فرحاً وحكمة لوالديها، لديها أختٌ أصغر منها . أصبحت فتاةً كبيرة، وشكّكت بأفضل علماء وأطباء العالم، وأفشلت منطق وخبرة علم الإحصاء والعالم الوجداني. لقد أكّدت القول:” حيثُ يشاءُ الله يغلبُ نظام الطبيعة وحقيقةً في أيامنا الحاضرة حيُّ هو الرب الضابط الكلّ”.
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
تنضيد إلكتروني : ريتا برايا ـ قنشرين
ما بيشعر بالوجع غير صاحب الوجع وهيك قصص كتير بتخفف عن اصحاب الوجع. الله يبعد المرض
قصة مؤثرة جدا. الرب قادر على كل شي.🙏
نعم إنه الإيمان يصنع المعجزات. الإيمان نفسه معجزه أن نثق بما يرجى ونوقن بأمور لاترى معجزه.
نعم إنه (القادر أن يفعل فوق كل شئ، اكثر جدا مما نطلب أو نفتكر ،بحسب القوة التي تعمل فينا رسالة افسس 20:3)