صدفة جديدة من صدف الأزمة السورية (الغزيرة) واجهها المكون السرياني مؤخراً في مدينة القامشلي السورية . فقد ضربت المفخخات و للمرة الثانية في أقل من شهر واحد حي الوسطى ذو الغالبية السريانية مخلفة ثلاث ضحايا كحصيلة أولية وعشرة جرحى . و في نفس اليوم و بسابقة لم يعهدها المجتمع السوري و نقلا عن موقع العرب تم نشر مقال طويل عريض في موقع كلنا لأجل السورية المعارض و الذي و حسب متابعتي له لم ينتقد هذا الموقع أميركا مرة واحدة أو أي من أصدقائها من الدول و التنظيمات . عنوان المقال هو (البطريرك كريم وريث كرسي انطاكية الذي خالف تقاليد الكنيسة و تدخل في السياسية) و يهاجم بشكل مباشر و صريح قامة دينية مسيحية مرموقة و رصينة هي بطريرك السريان الارثوذكس لانطاكية و سائر المشرق مار اغناطيوس أفرام الثاني كريم . يشن المقال هجومه على مواقف البطريرك الاجتماعية و السياسية من الحرب في سوريا متوجاً برسمة كاريكاتورية متقنة التشكيل تصور الأب الروحي للمجتمع السرياني و هو جالس على كرسيه الكنسي بزيه الديني الكامل و يحمل على كتفه بندقية كلاشينكوف !!
كاتب المقال هو شخص معارض يدعى باسل العودات و يبدو لي من اسمه انه لا ينتمي إلى المكون السرياني من المجتمع السوري و لكنه مثل أغلب السوريين المنادين (بالحرية) هو لا يستطيع أن يميز بين مفهومي الحرية و الحق و غير قادر على رؤية مساراتهما و علاقتهما ببعضهم البعض فهو يعطي لنفسه الحق بأن يتكلم عن لسان الأخرين و يتدخل في دقائق مجتمعهم و يحكم على عواطفهم و يرسم خريطة علاقاتهم الداخلية و يحدد تجاذباتهم فيما بينهم . بل هو يقرر عنهم مايجب و ما لا يجب عليهم أن يفعلوه فينكرعليهم بذلك حقهم في اتخاذ المواقف التي يرونها صحيحة في أكثر قضية مصيرية واجهت السوريين في العصر الحديث و هي طبيعة الموقف الاخلاقي و السياسي الواجب اتخاذه من حرب (الحرية) على وطنهم سوريا !؟ .
و الخطير في الأمر انه عند قراءة ما كتبه باسل العودات هذا يتواجه المرء مع رسالة سياسية واضحة تتضمن تحذيرات من ضربات عقابية سوف يتلقاها المجتمع السرياني من مقاتلي المعارضة السورية نتيجة لمواقف بطريركه الجديد من الأزمة . لكن جهل الكاتب بالحق و بالحرية و بذهنية المجتمع السرياني أعمى عينيه عن رؤية حقيقة واضحة و بسيطة و هي ان جل ما فعله البطريرك انما هو الانتقال من حالة الجلوس البيروقراطي على الكرسي الكنسي إلى حالة التحرك الايجابي لرعاية رعيته و لمواساتها و تشجيعها على الصبر و تحمل الألم .
المقال مليء بمعلومات عن كل تحركات و نشاطات البطريرك كريم و بالتواريخ و حسب الترتيب الزمني حتى ليخيل للقارئ بأنه أمام تقرير لجهاز مخابراتي يعرف تماما ماذا يفعل . كما و تضج السطور بلفتات سياسية غريبة و شاذة مثل عدم اخفاء الكاتب لتوتره الغير مفهوم من قيام مجموعة صغيرة من الشبيبة السريانية بالتسلح بأسلحة خفيفة لحماية كنائسهم و بيوتهم القليلة بعد سنين من فوضى الحرب في سوريا . و هنا أود أن أنوه بان للسريان في الجزيرة السورية تشكيلة من المقاتلين منذ أكثر من سنتين من الزمن ، لكنها و على ما يبدو لم تسبب أي ازعاج لطالبي الحرية !! ربما لأنها خاضعة لامرة ما يعرف بقوات الادارة الذاتية .
لا ينسى المقال أن يهاجم مجموعة الشباب التي ذهبت من القامشلي إلى بلدة صدد السريانية لمد يد العون إلى أهلها في الدفاع عن أنفسهم من هجوم لداعش كان يدق على أبوابهم و ينذر بتحويلهم إلى عبيد و سبايا في لحظة خاطفة . و لم ينسى الكاتب عند تذكره لصدد أن يعطف على شخص البطريرك بالمرة و على البيعة و السبب (و هنا المفارقة) أنه ذهب إلى بلدة صدد ابان حصارها من داعش كي يشد من أزر أبناءه في محنتهم و يعزز من ثقتهم بالرب و بسوريا الدولة و الوطن .
لا أعرف ان كان الأمر ينطوي على خبث ممنهج و مدروس أم ان الفرد المعارض هو فعلاً قد فقد القدرة الفطرية على تقييم ما يبدر عن الآخر بشكل سليم و بنظرة اخلاقية صحية . فعندما تواجد مفتي سوريا حسون و البطريرك السرياني في حفل انتخاب ملكة جمال اللاذقية هجمت أقلام المعارضة و فيسبوكيها متهمة رجال الدين السوريين بالاحتفال (بين) ملكات الجمال بينما سوريا تعاني ما تعانيه . تجاهل أو غفل مهاجمو المفتي و البطريرك عن الرسالة السامية التي أرادت الدولة و رجال دينها ايصالها إلى العالم و هي ان وطننا سوف يبقى مكانا للجمال و ان النظام الديني المتزمت الذي بنته داعش و جبهة النصرة و من لف لفيفهم في مناطق سيطرتهم هو لا يمثل سوريا و لا فكر السوريين الديني و هو لن يمثلهما لا تالياً و لا لاحقاً . فملكة الجمال هي صورة عن جوهر سوريا التي أنهكتها الحرب و لكنها لم تستطع أن تنال من جمالها الداخلي .
لكن هل يمكن لكل ماسبق أن يعطينا فكرة عمن يتقصد ضرب المجتمع السرياني في مدينة القامشلي و لماذا ؟؟ يواجهنا أكثر من احتمال عند بحثنا عن الجهة التي يمكن أن تكون وراء التفجيرات , فهناك رأي منتشر داخل القامشلي يقول ان قوات الحماية التابعة للادارة الذاتية هي التي تقف وراء هذه الضربات بقصد التأديب بغية اخضاع الحي الموالي للدولة السورية إلى سلطتها خاصة و انه منذ أيام قليلة كان قد نشأ احتكاك بين الطرفين عندما حاولت قوات الادارة الذاتية بالقوة ازالة حواجز و ضعها الشبان السريان مما أدى لمقتل عنصر سرياني و واحد كردي و قد رعى البطريرك السرياني بعد تلك الحادثة مصالحة بين الطرفين لتجنب المزيد من الضحايا .
و هناك رأي آخر من الداخل يرى انه لا مصلحة للأكراد في ضرب السريان و ان الفاعل هو الخلايا النائمة من المهاجرين إلى القامشلي من الأرياف و من دير الزور و الرقة ممن ينتمون أو يتعاملون في السر مع داعش . و السبب حسب هذا الرأي هو انزال العقاب بحي موالي قد نعم باستقرار و هدوء نسبيين خلال سنين الأزمة الخمسة . و هناك رأي ثالث ثابت لا يتغير و يبقى هو ذاته في كل و قت دون تعديل أو تفكيرأو تمحيص مهما تغيرت الظروف السياسية و المعطيات الميدانية و بصرف النظر عن هوية الضحية . هذا الرأي هو أكثر سمة تميز المنادين ب (الحرية) و الذي يقول ان النظام هو وراء الضربات مثلما كان هو وراء كل شيء ابتداء من هابيل و قابيل و صولا إلى آخر جريمة سوف تقع في الأرض .
و السؤال الأن هو : كون حي الوسطى الذي يتعرض لهذه الهجمات هو حي موالي للنظام بأغلبه هل نستطيع يا ترى من خلال تمحيصنا فيما يبدرعن المعارضين أو المنادين (بالحرية) من ملاحظات أو من خلال زلاتهم أن نستشف لماذا ضربت التفجيرات هذا الحي السرياني و لماذا الأن ؟ . بالعودة إلى مقال باسل العودات نجد انه يحوي تهجماً على البطريرك لأنه سافر منذ عدة أشهر مضت إلى روسيا و التقى بوزير الخارجية الروسي لافروف . هذا التهجم مملوء بالرعونة و ليس له تفسير منطقي بل هو يسلب من البطريرك أبسط حق من حقوقه و هو السفر إلى بلد يملك قوة عظمى و يمسك بمفاتيح الأزمة السورية و أصبح محجاً لمن يبحث عن حل للحرب . المعارضة على لسان الكاتب تطلب من البطريرك أن يستكين و ينكفئ إلى خمول و رتابة البيروقراطية بل و لجأت إلى الوعيد ان هو لم ينفذ !! لكن لماذا هذا التوتر من زيارة البطريرك إلى روسيا ؟؟ برأي ان جواب المسألة برمتها يكمن في خبر يقول انه منذ مدة ليست بطويلة قد هبطت طائرة في مطار القامشلي تقل جنوداً روس كانوا في مهمة و ليس في زيارة و مهمتهم هذه ليست بعابرة أو قصيرة .
أما فيما يخص تهجمات طالبي (الحرية) على اخلاقيات هذا ا الشيخ و ذاك المطران و هذا البطريرك و من يستمع لهم من رعيتهم و هم كثر فمصدرها برأي هو ثقة هؤلاء المعارضين بسمو رسالتهم ( و لا أعرف هنا ان كانت ثقتهم هذه صادقة مائة في المائة أم لا ) مما يدفعهم إلى شيطنة كل من يشكك في فحوى هذه الرسالة . فعدا عن عناصر داعش و من لف لفيفهم ممن أغشت قلوبهم و عقولهم فكرة الخلافة و السيطرة و حرية امتلاك السبايا يتبقى لدينا المعارض الذي غشيت عيناه من بريق كلمة الحرية و طرشت اذناه من رنينها لكنه و للأسف هو لم ينتبه إلى الثقب الأسود الموجود في أساس بنائه الفكري و الذي ابتلع بوصلته الفطرية التي تميز بين مفهومي الحرية و الحق و علاقتهما ببعضهم البعض و اتجاه مساراتهما . هذا الخطأ أو النقص الكارثي لم يقع فيه هذا البطريرك و ذاك المطران لأنهم و على عكس من نادى بالحرية ففتح أبواب جهنم للعبودية و الدماء و الضياع هم يعرفون بأن الحرية لم تصنع و لا مرة واحدة انساناً حراً طوال تاريخ البشرية بل الحق هو الذي يصنعه و هو الذي يحرر … هذا ما آمن به البطريرك و الباقون و هذا ما سمعوه على لسان معلمهم عندما قال لهم في الكتاب المقدس : تعرفون الحق و الحق يحرركم .. و قمة الحق هي ألا يجعل الانسان من فكره معبراً و باباً للعبودية و الموت .