لغة حلب
السريانية
بحث تاريخي لغوي ـ للقس جرجس شلحت
مقدمة:
إن المعلومات التي نقدمها اليوم لقرائنا،إنما
هي معلومات علمية محضة، تلقى بين أيدي المؤرخين واللغويين ، أطروحة جديدة ،
قد تكون مبعثاً لنقاش طويل !...نقول هذا لا لكوننا نشك في صحة
نظريتنا ، إنما بالنسبة إلى الجديد المفاجئ فيها . والمفاجأة
تقابل دوماً برد فعل تعكسه النفوس والعقليات ، بما فيها من تفاوت
في التربية الأولية أو الثقافة والمعلومات، وبما توحيه إليها
الأهواء والاتجاهات، وقد لاتسلم من الانحرافات المغلوطة ، يغذيها
انقياد أعمى لتوجيهات الغير ، أو لتعصب ديني أو سياسي خفي ....
فأول
ما نريده قبل الشروع في الموضوع هو أن يمتنع عن مطالعة ما
وردناه ، كل من ليس له إلمام عام بالتاريخ
القديم والعلوم الشرقية أولاً ، ثم كل من تعصب لدين أو لحزب أو
لأمة بشكل من الأشكال ...
فقد يعجب القارئ الكريم إذا طالع عنوان هذا البحث((لغة حلب
السريانية )) وقد يزيد دهشة ، إذا ما عدنا وكررنا عليه
بجلاء ، أن لغتنا هذه اللغة التي نتكلم بها في حلب ، في
هذا النصف الثاني من القرن العشرين ، إنما هي
(( لغة سريانية
))
وليست لغة أخرى .هي لغة سريانية بأسمائها وألفاظها وقواعدها
، لا تمت إلى العربية إلا بالصلات التي تربط سائر اللغات
السامية الأخوات ببعضها ؛ يزاد عليها بعض التأثيرات التي
أولدها احتكاك أبنائها باللغة العربية على مدى الأجيال
!...
إنما نسأل المواطن العزيز ، ونخص ذاك الذي يطلع
موضوعنا لأول مرة ، أن يطالعنا بتمهل وتمعن دون وشاكٍ في بت رأيه
، قبل الفراغ من البحث وسيقتنع حتماً حين يتفهم شرح ما قدمنا ؛
لان جميع أجزاء بحثنا متعامدة متكاتفة ، مؤسسة على تروٍ كثير في
التنقيب والملاحظة ، وعلى زبدة دروس دقيقة لفطاحل المؤرخين
والأثريين .
توطئة
بعد الأبحاث الدقيقة التي قام بها الأثريون واللغويون ، بعد
الدروس المسهبة التي دبجها العلماء والمؤرخون ، أصبحنا اليوم ،
وليس في من لهم اقل إلمام بتاريخنا المجيد . من ينكر أن الشعب
السوري عامة ، والحلبي خاصة ، كان شعباً واحداً ، هو ((
الشعب السرياني
))
، وقد اختلط به من العناصر المختلطة مدى الأجيال ما
لا يحصى عدهُ ،إلا أنها جميعاً كانت تنصهر في بوتقته المتأججة لا
تفكك شيئاً من وحدته الوثيقة ، إنما تزيده تماسكاً ، ومناعة ،
وغنى! .....
إإن
تلك الأمة السريانية العظيمة هي إلى اليوم :
حية في اسمها
((
سوريا
))
رغم تحريف الأعاجم له ؛ حية في علومها التي كانت قبل أن توجد
علوم في اليونان تلميذتها ؛ حية في حضارتها التي لمعت قبل أن
تنبثق حضارة من قرطجنة ابنتها ؛ حية في اختراعاتها واكتشافاتها
التي انتشرت قبل أن توجد اختراعات في مصر جارتها وحليفتها فيما
بعد ؛ حية في لغتها السريانية
(( واللغة عقل الأمة ))
التي لا
تزال تستعمل في
معاطياتنا
اليومية المستديمة وتؤثر على عقليتنا
وتفكيرنا وتوجيهنا !....
ـ هذه اللغة ، التي صارت يوماً لغة الدول الرسمية ، بل لغة
الحضارة والعالم المتمدن اجمع ، من أقاصي السودان
ومصر ، إلى سوريا في حدودها الطبيعية الأصلية ، إلى آشور وبابل ،
إلى أقاصي الدول الفارسية الزاهرة ، كما سنثبت ذلك بعد قليل
!....
وقد قال في هذا الصدد
الدكتور كلاي
أستاذ اللغات السريانية في جامعة بابل الأميركية ، أثناء خطاب له
ما ملخصه :
(( كان في شمال سوريا وما يجاوزها من بلاد ما بين النهرين ، أقدم
مدينة في الشرق الأدنى ، وان هذه المدينة هي اقدم من حضارة مصر
ومن تمدن بابل نفسها ))
ويعتقد هذا الدكتور البحاثة أن اقدم التفاصيل عن عبادة عشتروت ،
وأقدم الروايات الخرافية عن آلهة بابل و آشور ، تشير إلى موطن
اصلي في شمالي سوريا ، في حلب وضواحيها.وقد نقلت المجلة التي
تصدرها الجامعة الأميركية في بيروت هذا الخطاب ، إذ أثبتته في
مجلدها العاشر وزادت قائلة :
((ولا
يخفى ما في صدور هذا القول عن علامة كهذا ، من المناقضة لأقوال
المتخصصين في تاريخ مصر القديم ، فقد أوجب على علماء التاريخ
القديم أن يعيدوا كتابة تواريخهم مبتدئين من تاريخ سوريا من سنة
5000 لا من سنة 3000 قبل المسيح كما جروا عليه الآن))
وهكذا فقد تتشرف امتنا السورية الحاضرة ، وفيها
حلبنا العزيزة خاصة ، أنها كانت بأصلها السرياني النبيل ، بلغتها
وثقافتها ، أم الحضارات التي امتدت إلى القرون الوسطى ، وأساس كل
حضارة نراها اليوم وان كنا لا نتبين من أول وهلةٍ وبدون درس ،
الصلة الوثيقة التي تربط الفروع الحديثة الزاهرة المثمرة ،
بالأصل المندثر تحت غبار الأجيال !....
ـ
راجع في هذا الصدد كتاب (( نهر الذهب في تاريخ حلب )) لصاحبه
الشيخ كامل المعروف بالغزي