يتفق معظم المؤرخين على ان العصر الذهبى للحضور المسيحى العربى يبدا من منتصف القرن الثامن حتى منتصف القرن الثالث عشر (750-1250م) فهو العصر الذى تجلى فيه اسهامات المسيحيين العرب فى الحضارة العربية فظهر حُنين ابن اسحاق عالم اللغات والمترجم والطبيب وكان يجيد – بالإضافة للعربية – السريانية والفارسية واليونانية وعينه الخليفه العباسي المأمون مسؤولا عن بيت الحكمة. وهناك الفيلسوف ومترجم الفلسفة من السريانيَّة إلى العربيَّة المسيحى العربى يَـحيى بن عَـدي (894 ـ 975م) الذى اهتم بالمنطق فلقِّب بالمنطقي.
بالاضافة الى كثيرون مثل : قسطا بن لوقا، العالم والطبيب الملكى، الذى كان يتقن ثلاث لغات (العربية-السريانية-الاغريقية) والفيلسوف والفقية القانونى والطبيب ابو الفرج بن الطيب. كما اشتهرت أسرة آل بختيشوع بمسؤليتها عن الطب في الدولة العباسية طوال ثلاثة قرون، وخدم أبناؤها كأطباء خاصّين للخلفاء العباسيين.
أسهم المسيحيّون ، العرب منهم والمستعربون ، أعظم إسهامٍ في عمليّة ”هَضم” الحضارات الأخرى ، وتوطينها في العالَم العربي . ودورهم في توطين الثقافتين اليونانية والسريانيّة ولاسيمّا في مجال الطبّ والعلوم الفلسفية . حتى انّه يحقّ لنا أن نَقول إنّ النهضّة العبّاسية لم تستطع أن تقومَ، في القرنين الثالث والرابع الهجري (التاسع والعاشر للميلاد) إلا بفضلهم . (الأب سمير خليل اليسوعي-التراث العربى المسيحى)
ويصف الجاحظ وضع المسيحيين خلال العصر العباسي :«إن النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين وعندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء… وان منهم كتّاب السلاطين وفرّاشي الملوك وأطباء الأشراف والعطّارين والصيارفة..( الجاحظ، رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجبل، بيروت ). وامتاز العصر الذهبيّ بالتعاون الايجابى بين العلماء والفلاسفة من جميع الأديان :مسلمين من مختلف الفرق الاسلامية ومسيحيين من مختلف المذاهب المسيحية ويهود وصابئة
ويضع الأب سمير خليل اليسوعى، سببين أساسين لقيام النهضة العبّاسيَة الكبرى : الأول : تفتُح حكماء الإسلام على الحضارات القديمة ( من يونانيّة وسريانيّة وفارسيّة وهنديّة ) وعدم تعصبُّهم. والثانى: اندماج المسيحيين العرب في الحضارة العربيّة والدولة الأسلاميّة ، بلا تحفُظ وتأخُّر.
اسهام المسيحيين فى النهضة العباسية
لم تكن النهضة العباسية وليدة الصدفة، فقد تم التحضير لها مطولا حتى قبل مجئ العباسيين أنفسهم وذلك بفضل المدارس السريانية القائلة بطبيعة المسيح الواحدة والمدارس النسطورية على وجه الخصوص. فكانت الكنائس السريانية تتمتع بنظام تعليم جيد. فكان للقائلين بطبيعة المسيح الواحد ثلاثة مراكز ثقافية : أميدا، دير قنشرية وانطاكية. اما النساطرة فكان لهم ثلاث مدارس كبيرة : مدرسة نَصبيين، مدرسة المدائين ومدرسة جنديشابور.
وعندما ارسى الخلفاء العباسيين أُسس بغداد فى العام 763، ابتعدوا جغرافيا وثقافيا عن العالمين العربى والبيزنطى واقتربو من العالم الفارسى لدرجة ان الادارة أصبحت فارسية واستندوا تلقائيا الى الذين يتمتعون بثقافة عريقة فى المنطقة، اى المسيحيين النساطرة، ووظفوهم لخدمة الدولة بصفة كتّاب وأطباء ومترجمين. (المسيحية عبر تاريخها فى المشرق، الاب سمير خليل اليسوعى ، بيروت،لبنان،2002)
دور المسيحيون العرب في توصيل التراث اليوناني
يتساءل المفهرس ابن النديم ، مؤلف كتاب “الفهرست” وهو اول قائمة جرد عرفتها الثقافة العربية فى عام 987 م حول السبب الذى من اجلة كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة فى بغداد ويُجيب مشيرا الى الرؤيا الليلية التى ظهرت للخليفة المأمون (813-833) وظهر فيها ارسطو الذى حثه على تكثيف حركة الترجمة وتنظيمها ضمن منهجية
أسس الخليفة المأمون بيت الحكمة فى العام 830 ، وهو الذي نشط حركة استيطان الفكر اليوناني في العالم العربي، وكان يوحنّا (أو يحيى) بن ماسَوَيه (777/857م) الطبيب النسطورى مدير بيت الحكمة أيَام المأمون ؛ ثمَّ تبعه تلميذُه أبو زيد حُنيَن بن إسحاق (809-873م) الذى قال فيه ابن جُلجل في ” طبقات الأطباء والحكماء ” كان ” عالماً بلسان العرب ، فصيحاً باللسان اليونانيّ جداً ، بارعاً في اللسانين بلاغةً بلغ بها التمييز عِلَل اللسانين ” .
اسهامات المسيحيين العرب فى الطب
من المدارس ذات الأهمية البالغة فى نقل وتدريس الطب وسائر علوم الأوائل، مدرسة جنديسابور التى ازدهرت بداية من القرن السادس فى ايام الملك العادل كسرى انو شروان بفضل العلماء النساطرة الذين طردوا من الرها أنذاك.
وبدأت العناية تتجه الى هذه المدرسة فى أوائل حكم العباسيين، الذين نقلوا عاصمة الملك إلى بغداد. وقام الخليفة الثانى المنصور فى عام 865م باستشارة رئيس أطباء بيمارستان جنديسابور وهو جورجيوس بن بختيشوع طوال ثلاثة قرون، وكانت أسرة ال بختيشوع ذات مكانة كبرى عند الخلفاء: فمنها كان اطباء الخلفاء ووزرائهم، وكان منها الأطباء المحترفون واطباء البيمارستانات (المستشفيات) ومعلمو الطب والفلسفة. ومن أشهر اطبائها فى القرن التاسع الميلادى يوحنا بن ماسوية الذى هاجر إلى بغداد. وأقام مستشفى، وعينه الخليفة المأمون فى سنة (830م) رئيسًا لبيت الحكمة وعليه تتلمذ حُنين بن اسحق. (بدوى عبد الرحمن، تاريخ الحضارة العربية الاسلامية، دار الفارس للنشر والتوزيع، 1995)
هكذا استعرضنا جزءأ يسيرا من اسهامات المسيحيين العرب فى العصر العباسى، “فمهما يكن من أمر فان الفلاسفة والنقلة المسيحيين كانوا ولسوف يُعتبرون دومًا من أعظم من عرفهم التاريخ العربي، فمن يتكلم عن الترجمة عند العرب لا يسعه إلا أن يذكر حنين بن إسحاق وتلامذته، ومن يحصى كبار الفلاسفة العرب مُنصفًا لا بد له أن يسجّل،إلى جانب ابن سينا والفارابي ،يحيى بن عدى وأبا بشر متى بن يونس. ( لويس شيخو،علماء النصرانية فى الإسلام)